الجمعة، 1 يناير 2016

«حديث الحب».. من إسراءات «الفن» إلى معارج «التفلسف» !!


نشر في الجمهورية يوم 20 - 09 - 2012

أردت أن أرى الحب ذات مرة، فرأيت بحراً وقف الأدباء بساحله، وغرق النقاد في لُجج مسائله، وأيقنت – حينئذ - أن التأليف عن الحب كالحب نفسه، لا يتوقف إلا ليبدأ من جديد، ذلك أني وجدت رصْداً لما يقارب خمساً وثلاثين مقالة ما بين كتاب ورسالة وفصل معقود في مؤلفات التراث عن الحب، بدءاً بالجاحظ (255 ه) وانتهاء بمحمد بن الحسين الكوراني (1243ه)، ويتحدد القدر المشترك بينهم جميعاً في أنهم ينظرون إلى الحب على أنه ظاهرة بشرية مجبول عليها(1). 
ثم رأيت فيما بين يدي من المراجع النقدية الحديثة أكثر من أربعين مبحثاً عن الحب في الأدب والفن، يفلسف كل كاتب فيها الحب الفني بطريقته!
إن الناظر في الأخبار التراثية عن الحب؛ ليجد الصورة الشاحبة للحب المعذب المحروم في قصص الحب العذري، ويجد الصورة الجنسية للحب الملوكي غير المهذب في القصص والنوادر الشعبية، أما ابن داود الظاهري فقد جاء بكتابه (الزهرة)، ليجعل من الحب موقفاً وفكرة، حقيقتها أن “لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء”، ثم تلاه ابن حزم رائد هذا الباب، الذي أفاد من تجارب سابقيه، مع الاحتكام إلى التجربة والملاحظة، موازناً بين الحب فكرةً، والحب سلوكًا، والحب جنسًا(2).
ويعدُّ بعض النقاد كتاب “الأغاني” للأصفهاني أول موسوعة شاملة في الحب على المستوى التطبيقي؛ لأنه اهتم بالعشاق وشعراء الحب والقيان والظرفاء وكل من يمُتُّ إليه بسبب، ولعل القراءة المتأنية لهذه الأخبار - على الرغم من تضارب بعضها - أن تعطي دلالات اجتماعية ونفسية ذات قدر من الأهمية بالنسبة إلى الحب وما كان يحوطه من عادات وتقاليد وحيل(3).
ومن المعلوم اشتهار بعض الشعراء القدماء بنساء معينات كانوا يحبونهن ويتغزلون بهن في أشعارهم، حتى لزمتهم أسماؤهن لزوم المبتدأ للخبر والمضاف للمضاف إليه، فاشتهر جميل ببثينة، وكثير بعزة، وعروة بن حزام بعفراء، وقيس بن الملوح بليلى، وقيس بن ذريح بلبنى، والمرقش بفاطمة، وذو الرمة بمَيَّة، والعباس بن الأحنف بفوز، وتوبة بليلى الأخيلية، وعبلة بعنترة.
وقد تناولت كثير من الدراسات النقدية الشعر الغزلي لهؤلاء بما لا تتسع هذه المقالة لذكره، كما كان لشعراء الأندلس نصيب من نقد الحب في أدبهم، ومن ذلك دراسة بعنوان “ظاهرة الحزن في الشعر الأندلسي في القرن الخامس الهجري”، تحدث فيها الباحث عن أسباب الحزن في الحب الأندلسي، وأن منه فشل الشعراء والشاعرات في الحب والزواج، من أمثال الشاعر (ابن هند الداني) الذي طلق امرأته ثم ندم على طلاقها، و(يحيى بن محمد) الذي عاجلت امرأته المنية؛ فبلغ من أسفه عليها أن نام معها في دثار موتها ليلية وافية، و(عبدالملك بن جهور) الذي فارق امرأته بسبب كثرة شكواها وطول لسانها، وأبو (الحسن الحصري القيرواني) الذي كان كبير السن مع امرأة ممتلئة شباباً؛ فتركته وتركت في صدره جرحاً غائراً. ثم خلص الباحث إلى أن رؤية الشعراء الأندلسيين في القرن الخامس تتلخص في أن الحب قرين الشقاء، وأنه ليس من العسير أن يبلغ الإنسان مرتبة الحب، ولكن العسير أن يظل محافظاً على ما حصَّل من الحب، وهذا غالبا ما لا يكون! (4).
كما عرضت الدراسة لآلام الحب في كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم، وفيها تُقرر أن ابن حزم تحدث عن نفسه بصراحة في هذا الكتاب، كما أنه تحدث عن آخرين من معاصريه دون ذكر أسمائهم، موشياً نثره بأشعار مشبعة بمعارفه النفسية وثقافته الوجدانية، في محاولة منه لأن ينفذ من وراء هذا كله إلى كليات شاملة، تجمع النواميس النفسية التي تقف وراء مثل هذا السلوك البشري(5).
وعرضت دراسة أخرى عنوانها: “الأدب الأندلسي بين التأثير والتأثر”، لسبْق كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم في تشريح الحب، وفيه دفع الكاتب عن ابن حزم تهمة التأثر بالمسيحية في الحب العذري الذي عرض فلسفته فيه، منوهاً إلى أن كتاب (طوق الحمامة) أحدث ضجة عظيمة في أوروبا إثر طبعته الأولى في ليدن سنة (1914م)، وموجب تلك الضجة أنه لم يثبت أن كتاباً أُلِّف في فن الحب قبل ذلك الكتاب، لا في اللغات الأوروبية القديمة ولا الحديثة(6).
كما كتب صاحب “فصول في النقد والأدب” عن صديقه الشاعر “إحسان عبد القدوس” واصفاً إياه بأنه “فارس الحرية والحب”، مستعرضاً هواجسه الثورية وطموحه الخالد في التغيير(7)، وكتب علي الجارم في “الجارميات” عن الشاعر الجاهلي “عنترة العبسي” مسمياً إياه “شاعر الحب والحرب”(8)، ورأيت في كتاب “على هامش الأدب والنقد” تتبعاً لشعر “الحب والصداقة” عند أبي تمام(9).
أما الحب في الأدب الغربي قديمه وحديثه؛ فهناك دراسة بعنوان “الأدب اللاتيني ودوره الحضاري” للدكتور أحمد عثمان، وقد تضمنت فيما تضمنت رؤية تحليلية لأدب الشاعر الروماني “أوفيديوس”، “ شاعر الحب والأساطير”، الذي دوَّن غزلياته الأدبية ثم نُشرت بعد عام (16 ق . م)، وفيها تشريح سردي لقصائده التي استلهم شخصياتها من الفكر الأسطوري، وصاغها في هيئة مونولوجات نصف درامية، مشحونة بحوارات خطابية إقناعية كانت معهودة آنذاك (10).
كما رأيت في كتاب “دراسات في الأدب الفرنسي “للدكتور علي درويش، ترجمة لحياة الشاعرة الفرنسية “مارسلين ديبورد فالمور” “شاعرة الحب والبكاء” المولودة عام (1786م)، وفيه قدم درويش هذه الشاعرة إلى القراء، مبيناً أطوار نشأتها، وقصة حبها، وقشف العيش الذي عانته في أطوار حياتها، مذيلاً عرضه بعبارة مفادها: أن العبقرية تعشش أحياناً في الأكواخ، حتى إذا عصفت الريح بالكوخ؛ انطلقت العبقرية إلى أبعد الآفاق.. حيث ينبغي أن تكون!(11).
وفي كتاب “التفسير والتفكيك والإيديولوجيا ودراسات أخرى” – وهو مجموعة بحوث غربية مترجمة من اختيار نهاد صليحة وآخرين - بحث تفكيكي كتبه ماريان ماكدونالد عن فكرة “الحب والموت” في “مسرح الشمس” للفنانة “إريان منوشكين”، وفيه يبين الباحث أن هذه المسرحية وإن كانت مستوحاة من التراجيديا اليونانية القديمة، إلا أنها مشبعة بتيار سياسي جغرافي جمعي شامل ينتمي إلى تيار ما بعد الحداثة، كما عدّ المسرحية معادلاً رمزياً لعالمنا المعاصر، الذي يلعب فيه الرجال ألعاباً سلطوية يروح ضحيتها النساء والأطفال(12).
وفي كتاب “الإنسان كلمة..شخصيات ودراسات عربية وغربية” للكاتب فتحي العشري؛ دراسة نقدية للشاعر الفرنسي “أرجوان” “شاعر الحب والمقاومة” المتوفى عام (1982م)، وهو الذي “كان يحلم كثيراً ويأكل قليلا”، ولعله لذلك ناصر تيارات سياسية وأدبية متعددة منها “السريالية” و”مؤتمر الكتاب الثوريين المناهضين للفاشية”، كما أنه أصدر مجلته الأدبية التي استوعبت كل التيارات الفكرية والشعورية والفنية في عصره، ثم عرض الكاتب لأشهر دواوين أرجوان البالغة ثلاثين ديواناً، ظهر أولها عام (1919م) بعنوان: “نار السعادة” وظهر آخرها عام (1966م) بعنوان: “رثاء إلى بابلو نيرودا “(13).
وفي كتاب “الحب في التراث العربي” – وهو من أوسع الدراسات التي تناولت هذا الموضوع – حديث عن أصناف المحبين من الشعراء(14) وحديث آخر في كتاب “ الوجه الآخر – مقالات في الأدب و الفن “لمحمد عبدالحليم عبدالله؛ عن “الحب في ثيابه التنكرية”، وفيه يتناول صورة ما كان يسمى في الأساطير ب(إله الحب) عند الإغريق، وأنه كان يُرسم عرياناً لكي يلبس مع الأبد أي بِزَّة يختارها، وأنه لا يكف عن التنكر في اللباس على الرغم من أن يديه الاثنتين مشغولتان(15).
ويبين أحمد تيمور في كتابه “الحب عند العرب” علاقة الحب بجمال النساء، وضرب لنا مثلاً من ذلك بالشاعر (أبي بكر الخوارزمي)، الذي كان مطبوعاً على امتداح من تقع عليها عينه منهن، غير هيَّاب ولا خجِل، ثم أتبعه بأحاديث الأعراب والبلغاء عن مقاييس الجمال الأنثوي الذي ترتضيه العرب، كصفاء الأسنان وطيب الرائحة، وتنقية الوجه من الشوائب بخيط الكتان(16).
ويرى العقاد في كتابه “ساعات بين الكتب ج 26” أن الشيخوخة ربما أعانت على النظم في معاني “الغزل”، معللاً ذلك بأن ثورة النفس التي تبلبل القرائح تسكن ثائرتها في هذا السن، ممثلاً على ذلك بالشاعر “توماس هاردي” الذي نظم شعراً غزلياً رائعاً بعد بلوغه السبعين عاماً، ثم يقرر أن الحب قد يعلو حين يهبط الغزل، وأن الغزل قد يهبط حين يعلو الحب، وسر ذلك أن الشاعر يقسم نفسه بين محبوبين هما: “الحبيب” و”الفن”، فيكون نصيب “الحب” أجزل عنده من نصيب “الفن” تارة، ونصيب “الفن” أكثر عنده من نصيب “الحب” تارة أخرى، وبناء على هذا يرى العقاد أن الغزل الجيد لا يعد دليلاً على العاطفة الجيدة في كل الأحوال(17).
كان هذا حديثاً عن “حديث الحب” عند (الأدباء) الذين يُعدون أول المؤلفين في الحب؛ لأنهم انتقلوا به من مستوى “الغريزة” إلى مستوى “الظاهرة الفنية”، وعند النقاد الذين ارتقوا به من مستوى “الظاهرة الفنية” إلى معارج “التفلسف”، والذي تركته مما رأيتُ ومما لم أرَ أغزر وأكثر، وحسبي فيما كتبته هنا أن يكون بُلغة للقانع، ونُهزة للطامع، أما المنهوم فما يشبع ولو أوتيَ ملء الأرض كُتُباً!
الهوامش:
(1) انظرها تفصيلاً في: الحب في التراث العربي، ص 41 – 45.
(2) نفسه، ص 71.
(3) نفسه، ص 207 - 208.
(4) ص 56 – 59.
(5) ص 75.
(6) ص 153 – 155.
(7) ص 251.
(8) ص 372.
(9) ص 112.
(10) ص 225.
(11) ص 259.
(12) ص 242.
(13) ص 48.
(14) ص 93 ، 257.
(15) ص 130.
(16) ص 76.
(17) ص 469.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق