الجمعة، 1 يناير 2016

عروس الأرض.. بين «مخاض » الهِجرة .. و«جذع نخلة» الحُبِّ القديم !

نشر في الجمهورية يوم 22 - 11 - 2012

مكة هي عروس الأرض ، وكعبتها هي شامةُ العالم ، وماؤها هو بلسم الدنيا ! 
أمضى حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أيام صِباه في روابي مكة ؛ فكان كالغصن في مَيْعة الضحى ؛ كلما سقاه نداها اهتزَّ وهو رطيبٌ !
كان يشرف عليها من جبل حراء ؛ وهو يقظانُ القلبِ كالصقر !
كان يتعبد في الغار ؛ كما تعتمل اللؤلؤة في جوف الصَّدَفة!
كان حبيبَها الوادِع على ساعديها ، وسعادتها المرفرفة في آفاقها ، وظلالها الوارف فوق آلامها !
كان ريحانَ صدرها حين تشمُّه ، ومؤنسَ ليلها حين تضمُّه:
دعوتُ أطباءَ العراق فلم يُصب
دواءَك منهم في البلاد طبيبُ !
كان يعقد معها مواعيدَ الحب ، مع هبوب نسائم السَّحَر .. ولَكَم أعدّت له سترا في الخفاء ، وتوارت عن عيون الرقباء ، واستوت مستوحشة تنتظره تحت بساط السماء ، فإذا جاء محاريبها مدّت إليه أكفُّ الإلهام ثمارَ المُنى ، فيبادر لاقتطافها ؛ فيخطفها منه فلولُ المتنَصِّتين ، ويطوونها بأساطيرِ الخرافة !
كانت آماله تسبَح في ربا مكة ، كزورق يترنّح فوق موجة عِطر ، وإنه لمعذورٌ في كل هذا .. لقد صُبَّ حبُّ مكة في كأس فؤاده صبًّا :
ولقد وقفتُ على ودادك مهجتي
وتصرفي في الوقف غيرُ محلَّل !
وعذرتُ نفسي في هواكِ لأنني
أوردتُها في الحب أعذبَ منهلِ !
كان - صلى الله عليه وسلم - غيمةً في خاطر مكة ، ولولا رياح الهجرة ؛ لكانت أمطرتها غيثا مُغيثا .. فسالت أوديةٌ بقدرها ، فاهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج !
أعدَّ المشركون له دِرعا كانوا يحسبونها متينة ، فإذا بالدرع رداءٌ من كتَّانٍ : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30] ، فمشى مع صاحبه أبي بكر الصديق قاصدَين غار ثور في اتجاه اليمن .. بينما كان قلبه يحلّق فوق مكة .. كعبتها .. مسجدها .. محاريبها .. رُباها .. غار حرائها .. وصدره وعينه يفيضان : ذاك من الشوق ؛ وهذه من الدمع !
وقف على مشارف مكة قبيل الوداع ، ثم طفق يناجيها مناجاة العاشق للمعشوق : «والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إليَّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» :
ويومئ بالتحية من بعيدٍ
كما يومي بإصبعه الغريقُ !
فلما غابت عن ناظريه حقا ؛ رسا حزنُه في كل ذرة من ذرات رمالها ، ثم لم تبق عين من عيون الآمالبمكة ؛ إلا ودمعها سائل !
هاجر وما معه إلا رفقته ، وراحلته ، وشيء من قوتٍ قليل .. لكن وطأة الفراق هي التي أحفتْ قدميه الشريفتين :
إن تكن خفَّتِ الحُمُول فعندي
عبءُ حبٍّ من الغرام ثقيلُ !
اتجه شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا ، ولسان حاله ينادي :
فصَلت منازلَنا البحارُ .. وقطرةٌ
منهن بين قلوبنا .. لم تدخُل !
يا ألله ! لقد حلَّ بربيع قريش خريفٌ منكرٌ ؛ وظلالٌ قاتماتٌ ، وطاف على ناديها طائفٌ من الخسران وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم !
لقد هاجر منها ، فترك جبالها عارية بلا كساء ، وورودها تَفِلةً بلا عبير ، وحمامَها خرساءَ بلا هديل ، يلفُّ أكنافها ليلُ الشرك في طيَّات حندَسِهِ ، كما يغيْبُ السرُّ في صدر الكتُوم ، فما فيها من مظاهر الحياة إلا هواتف الجن ؛ غُواتِهم وهُداتِهم !
لقد رحل عن مكة ! لكنه لم ينسَ مكة ! بل كان خياله يستعيد ذكرياتها في كل حين ولا يشبع !
إن الهجرة تركت في صدره طائرا من الشجن ؛ يتولى تارة ويثوب أخرى ! وغرست في بستان صدره زهرة ؛ يسقيها الحزن دمعا أبديا ! فكان يعِزُّ عليه أن يمُرَّ يومٌ وقلبه فارغٌ من مكة :
آهِ كم أغدو صغيرا حاجتي
لكِ كالطفل إلى رحمة أمِّ !
أيُّ سر فيك ؟ إني لست أدري ؟
كل ما فيكِ من الأسرار يُغري !
ثم اخضرَّت به “ طيبة “ الطيِّبة ؛ لكنه لم يلق لقلبه مستراحا تحت ظل شجرة من أشجارها ، ولا نخلة من نخيلها !
إن لمكة عنده مذاقا آخر مختلفا : «اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ حبا» .. لأن مكة هي فجر صباه ، فهو يناجيها في كل شبيه !
ومازال الشوق إليها يعتلج في صدره ؛ حتى رأى في المنام أنه مع أصحابه يطوفون بالبيت ويلبُّون .. فلما تعجلوا تصديق الرؤيا ؛ صدَّهم المشركون عن ذلك ب«صلح الحديبية » ؛ ذلك الصلح الذي بدا مثل إقحوانٍ ناعسٍ ، ونرجسٍ كاسفٍ .. فوافقهم على مضَضٍ ، وطائر صدره يغرِّد :
لي جوى فيهمُ يُبرِّحُ وجْدا
وهوى قاتلٌ ودمعٌ همولُ !
علِّلونا بقربكم و امطُلونا
علَّ يُجدي بكم ليَ التعليلُ !
حتى منَّ اللهُ بعام الفتح ، فدخلها مسالما ، مطأطئا رأسه تواضعا للواحد القهار ، فلما طاف بالبيت ؛ ألقى على وجهها قميص التوحيد ؛ فارتدّت مبصرة في غمرة عُرسها الضاحك .. وهزَّ إليها بجذع نخلة الوفاء ؛ فساقط عليها رُطبا جَنيّا !. بينما كان حُذاق الناس يتوسمون في وجوه لحظات الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ؛ ضبابَ أحزان !. أتدرون لماذا ؟.. لأنهم فهموا إشارة : «إذا تمَّ شيءٌ بدا نقصُه»!
استقبلته مكة بالسكينة والتهليل ، ولو نطقت حجارتُها لأنشدت :
فارقتَنا غضَّ الشباب وعُدت في
عهد المشيب تُقِرُّ عينَ الناظرِ !
ولأنت في العهدين فردُ زمانه
بمحاسن ومآثر و مفاخرِ !
فأين نحن من تلك المحاسن والمآثر والمفاخر ؟ ونحن كلما تصرَّم عامٌ تقافزنا - فرحين بانقضائه وقدوم ما بعده - على الرغم من أنه قد طُوي فيه دفترٌ من دفاتر أعمارنا طيًّا أبديًّا لا رجعة فيه !
لقد مضى العام الهجري .. ولا ندرى ما نحن صانعون بما صنعنا فيه ؟ أنذهب بركام أحداثه وآثاره إلى إرشيف العبر ؟ أم مخازن النسيان ؟ أم نحرقها في مقلب قمامة الغفلة !؟
وأقبل عامٌ .. لا ندري ما الله فاعل بنا فيه ؟ نسير فيه كما يلعب الأطفال المرحون وسط شارع مكتظ بالعربات والسيارات .. حتى تدهس أحدهم مركبة من مراكب الموت ، ويصيح به صائح القدر : “ يا أهٍل يثرب لا مقام لكم فارجعوا “ ! وحينئذ لا يُسبَقُ اللهُ على حمار ؛ ولا على ذي مِنقر طيَّار !
لكن الذي أنا على ثقة منه ؛ هو أنه كلما مرًّ على الورد يومٌ .. ذبُلت نضارتها ، وجفَّ عُودها ، ورُمي بها إلى أقرب شاة ؛ فجعلتْها كعصف مأكول ! ..فاللهم لطفك يا لطيف من سيوف الزمان وصروفه!
Danyallpshh95@gmail.com
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق