الجمعة، 1 يناير 2016

لا إكراه في «النقد» !!


نشر في الجمهورية يوم 04 - 10 - 2012

ما فتئ صابئة النقد العربي و الغربي يُكرهون مرتادي البحث الأدبي على اعتناق “ وُحدة التحليل المنهجي “ ، في مقابل سعيهم إلى نبذ “المنهج التكاملي” ؛ بحجة أنه يمثّل “ إجراء تلفيقيا “ ، و “شِركا منهجيا” ، يورد صاحبه “ نار الحيرة “ ، ويُحِلُّ به سخط “ العضوية “ التي زعموا أنها لا تغفر أن يُشرك بها ! 
ولعل هؤلاء غفلوا عن حقيقة الأمر التي لأجلها وُضعت معظم المناهج النقدية في الشرق والغرب ، وهي تحقيق غايتين : أولاهما توضيح العمل الأدبي توضيحا تاما ، وثانيتهما تقويمه تقويما سليما ، فلا حرج – إذن - على الباحث في أن يستعين بإجراءات المناهج النقدية التي لا تعدو هذين الطرفين ، و لْيزدْ إليها – بعد ذلك - من جهوده العلمية ، وانطباعاته الفذَّة ما شاء ! ( 1)
ثم إن المناهج النقدية لا تكون صالحة لاستكناه العمل الأدبي ؛ إلا إذا اتخذها الناقد منارات ومعالم ، فإذا جعلها حدودا وقيودا ؛ ضرَّ نقده وأفسد الفن ؛ لأن كل قالب محدودٍ قيدٌ للإبداع . ( 2)
وما كلُّ تصنيف نقدي كافيا لأن يعتمده الناقد اعتمادا نهائيا ، ولا كل ناقد متعمق يستطيع حمل نفسه على طريقة واحدة أو منهج واحد ، بل إنه لا يبرح حتى يستثمر كل الفروع الإجرائية التي يتطلبها العمل الأدبي ، ويبارز سائر المناهج التي تحاصره . (3)
ولعل فيما شهدناه ونشهده من تعدد في المناهج النقدية ؛ أكبر دليل على أن منهجا واحدا لا يغني غناء تاما في البحوث الأدبية ، فلابد – إذن - أن يتحول عقل الباحث إلى ما يشبه مرآة تعكس أضواء كل تلك المناهج : تعكس فكرة الفردية والأصالة ، والفصيلة الأدبية ، والبيئة وأحوال العصر ، والتطور التأريخي ، والحاجات المجتمعية ، والتزام الأديب ومدى تمثيله ثقافة مجتمعه ، ورواسب اللاشعور الفردي والجمعي ، وعناصر الجمال الكلي في التعبير والموسيقى ، والخصائص الأسلوبية والبلاغية والنحوية واللغوية ، كما تعكس الانطباعات الذاتية ، والملاحظات الموضوعية الكاشفة عن صلة الأديب بتراث أمته . (4)
إن البحث الأدبي أعقد من أن يخضع لمنهج معين ، ولا يمكن أن يحتويه طراز محدد ، لذلك كان من الواجب على الباحث أن يفيد من المناهج والدراسات النقدية كلها ، من خلال “منهج تكاملي” تنكشف له به جميع الأبعاد : في الأديب ، وفي الآثار الأدبية على حد سواء ! ( 5)
إن من أهم سمات “الناقد التكاملي” هي تناول العمل الأدبي من زواياه التي يتطلبها ذلك العمل - أيا كان مجالها النفسي أو الفني أو التأريخي ...- ، فإذا درس عصرا من عصور الأدب وأراد استبيان تأثير الطبقات الاجتماعية في شخصيات الأدباء وطبيعة أدبهم ، والتعرف على عقيدة الأديب ونحلته ومدى التزامه بها أو تخليه عنها ... غلِّب “المنهج الاجتماعي” ( 6) ، وإذا ابتغى استيضاح النمط الجماعي الذي ينتمي إليه الأديب مع من يشاركه أصول الصنعة الفنية من معاصريه ؛ غلّب “ المنهج الطبيعي “ ( 7) ، وإذا رغب في استكشاف دخائل الأديب ، وصفاته الخلْقية و الخُلُقية ومدى تأثيرها في فنه ، وملامح هذا التأثير في لغته وأساليبه ، وعُقد النقص التي كان يعاني منها ... غلّب “المنهج النفسي” (8 ) ، وإذا عرضت له في العمل الأدبي مسألة لغوية عالجها ب”التحليل اللساني” ...( 9) ، وذلك كله مشروط بأن لا يُغفل القيم الفنية الخالصة ، بل يجعلنا نعيش جوَّ الأدب وأريحيته ( 10) ، ولا يخنقنا بسرد البواعث النفسية المقررة سلفا ، لأن (النفس المبدعة) أوسع من تحليلات الفرويديين ، و(خيال الأديب) أكبر من تنظيرات البلاغيين ، و(لغة الفن) أعمق من تأطيرات البنيويين !
و “الناقد التكاملي” هو الذي يركِّب من مناهج من سبقه وإجراءاتهم التحليلية خلْقا سويا لا فارضًا ولا بكرًا ؛ فيرى : أنه لا غنى لنفسه عن فهم فلسفة الجمال ؛ لتضيء له الطريق إلى مقاييس الجمال الفني وقيمه وتفسيراته ، وتوسع آفاقه الفكرية ، وتنمي مداركه في تصور وظيفة الفن في الحياة (11 ) ، وأنه لا عذر له في الجهل بالدراسات التأثرية التي من شأنها أن تغذي ذوقه ، وتُعِدُّه للحكم البصير على العمل الأدبي ( 12) ، وأنه شديد الحاجة إلى الاطلاع على الدراسات الموضوعية ؛ لأنها تعمق صلته بالأصول الفنية الموروثة وما يرتبط بها من تقاليد ... ، وأنه لا بد له – قبل هذا وذاك - من إتقان التحليل اللغوي والنحوي والبلاغي للنصوص الإبداعية . ( 13)
قد يأخذ “الناقد التكاملي” من “نجيب الكيلاني” (إسلامية) النقد الجامعة بين متعة الفن ومنفعته ، ويستمد من “سارتر” و “لاكان” الاعتراف ب(الآخر) عنصرا فاعلا في تكوين الذات و الوعي بها - لكن دون اعتبار الآخر شريرا مدمّرا للإنسانية - ، ويفيد من “ماركس” و “إنجلز” (شموليته) – لكن دون الاقتراب من شيوعيتهما - ، ويستمنح من “جاكوبسون” (هيكله الرسالة الأدبية ووظيفيتها) ، ويستصفي من “جورج لوكاش” و”لوسيان جولدمان” (توفيقهما بين البنيوية الشكلانية وبين التفسير الواقعي للفكر والثقافة) - لكن بعيدا عن ماركسيتهما -، ويستلهم من “ستيفن غرينبلات” (تأريخانيته الثقافية) - لكن دون إهمال القيم الجمالية في النص الأدبي-، و يستعير من “هيرش” و”جادامير” مبادئ ال(هيرمونيطيقا) - لكن دون إلغاء دور المؤلف في تحديد دلالات النصوص الأدبية - ، و يستوحي من “دريدا” (تقويضيته) - لكن مع البناء بعد التفكيك - ، ويستضيء من “كريستيان توماسيوس” بنزعته (التنويرية) المعتدلة ...( 14) ، فبمثل هذا يستطيع الناقد استخلاص النواحي الموضوعية لديهم ، ويطَّرح في الوقت نفسه كل تافه محدود من أعمالهم وتنظيراتهم .( 15)
لو أنه قُدِّر للناقد التكاملي أن ينقد قصيدة شعرية جيدة ؛ فما أظنه سيحدثنا إلا عن محتواها ، ومناسبتها التي قيلت فيها ، و منابعها من تراث أسلافها ، ووجوه التشابك بينها وبين آثار أدبية معاصرة ذات صلة بها ، ثم يحللها تحليلا وافيا بحسب ما يعرف من أخبار صاحبها ، ورغباته ومخاوفه النفسية ، وما تتضمنه من “مُثُلٍ عليا” تجسد التجربة الجماعية ، وسيكشف عن فصاحة ألفاظها وغموض معانيها وبنية نظامها ، والعلاقات بين رموزها وما توحي به ، وما فيها من ضروب الجرس الإيقاعي وترابطاتها الداخلية ، وسيميز الملامح المتفردة من أسلوبها ، وقد يتحدث عما تشير إليه القصيدة من قضايا فلسفية أو دينية أو قيم ثقافية ، كما أنه سيضعها في إطارها العام من آثار منشئها ، ثم يقيِّم جمالياتها وغاياتها . ( 16)
هذا التكامل النقدي لا يمكن أن يكون مثل طبخة تُصبُّ محتوياتها في قِدر واحدة على نار هادئة ، بل لابد من بنائها وفق خطة منهجية منظمة ذات أساس وهيكل مرسوم ، وربما ادعى الماركسيون أن ماركسيتهم هي الإطار الذي يمكنه استيعاب كل هذا التكامل ؛ لكن الماركسية تفتقر إلى المرونة و الدقة والعلم والألمعية ، ثم إنها لا تصلح من الناحية العملية لتكون نظاما يستوعب كل مظاهر التقدم .. نعم يمكن لعلوم مثل “الانثربولوجيا” أن تتجاوز محيطها ، وتحتضن ما ذكرنا من المذاهب وأشباهها .. لكنها ستفتقد طابعها المميز الخاص بها .(17)
يُخيَّل إليَّ أن نظرية “النقد الإسلامي” - بمفهومها المنفتح – يمكنها استيعاب أسس منهج تكاملي وإن كانت بعض تلك الأسس غربية النشأة والنكهة - ؛ لأن الإسلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ، ويرسِّخ ما كان منها حسنا سائدا ، هذا مع ما عُرف عنه من مراعاة خصوصيات الأقوام في بيئاتهم الاجتماعية ، وأحوالهم التأريخية ، وأُطُرهم الثقافية المتباينة بتباين الأزمنة والأمكنة ، وذلك على وفق المبدأ القرآني : ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) [ البقرة 259] .. الذي يقتضي - من بابٍ أَولَى - أن لا إكراه في “ النقد “ !
Danyallpshh95@gmail.com
الهوامش:
(1) البحث الأدبي لشوقي ضيف ، ص 145 .
(2)النقد الأدبي أصوله ومناهجه ، ص 253.
(3) مناهج النقد الأدبي ، ص 219 .
(4)البحث الأدبي لشوقي ضيف ، ص 145 .
(5) نفسه ، ص 139.
(6) نفسه ، ص 141 .
(7) نفسه ، ص 139.
(8) نفسه ، ص 141 .
(9) النقد الأدبي أصوله ومناهجه ، ص255.
(10) نفسه ، ص 256.
(11) البحث الأدبي لشوقي ضيف ، ص 142 .
(12) نفسه ، ص 142 .
(13) نفسه ، ص 143 .
(14) دليل الناقد الأدبي ، في مواضع متفرقة .
(15)النقد الأدبي ومدارسه الحديثة لستانلي هايمن ، 2 / 247 .
(16) يراجع : نفسه ، 2 /252 – 254.
(17) يراجع : نفسه ، 2 /252 – 254.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق