الجمعة، 1 يناير 2016

بعد عقود من المراوحة بين الترجمة «الثَّكلى» والترجمة «المستأجرة»: هل يتصالح «النبيذ» الإنجليزي.. مع «لحوم البشر» الأمريكية؟!



نشر في الجمهورية يوم 18 - 10 - 2012

لا نظن أن هناك من ينكر أهمية الترجمة في الحياة الفكرية العربية المعاصرة، فإطلالة سريعة على ما يصدر في العالم العربي من كتب ومجلات وصحف؛ تكفي لإقناع أي مرتاب بأن الترجمة أضحت مكوناً أساسياً من مكونات حياتنا الثقافية، خصوصاً مع ظهور كثير من البرامج والمواقع الالكترونية؛ التي تفوق في كفاءة ترجمتها كثيراً من المترجمين!(1). 
ولطالما كانت الترجمة عملية محفوفة بالتناقضات، فالقارئ يريد نصاً سهلاً سلساً، ويريده نصاً متكاملاً على النحو الذي هو عليه في لغته الأصلية، ولو كان القارئ يتقن تلك اللغة لفضَّل الاطلاع على النص من خلالها مباشرة، بسبب ضعف ثقته في عملية الترجمة، التي يرى أنها مجرد تفسير للنص؛ يختلف باختلاف المترجم، وزمن الترجمة، وجمهور القراء! (2).
لكن خصوم الترجمة يذهبون إلى أبعد من هذا؛ فهم يشيرون إلى رداءة لغة المترجمين وأساليبهم التي يغلب عليها اللحن والعجمة (3)، ولذلك عدوا الترجمة على مدى قرون نشاطاً ثانوياً، ونظروا إلى القائمين به نظرة دونية.. هذه النظرة أغضبت الناقد والشاعر الإنجليزي “درايدن”؛ فوصف عمله وعمل إخوانه من المترجمين قائلا :”سنظل عبيداً يعملون في حقل إنسان آخر، يزرعون العنب ولكن النبيذ لصاحب الأرض”! (4).
لقد وصفت عملية (الترجمة) بجملة أوصاف غير حميدة ؛ فأطلق بلومفيلد على المفاهيم الترجمية مصطلح “القيم الإضافية”، وسماها موريس “المعلومات”، ووصفها سورنسن ب”الحمولة الانفعالية”، ووسمها فايرنش ب”التأثر الأولي”، ونعتها علم المصطلحات الأمريكية ب”القيم الانفعالية - غير الإدراكية - التعبيرية الافتراضية - التواصلية”، مما يؤكد وجود هوة سحيقة ؛ تولدت عن تجذر الاختلافات الألسنية والثقافية بين لغات العالم المختلفة! (5) ، وبناء عليه فإن النص إذا تُرجِم صار مسخاً مشوهاً عن صورته في اللغة الأصلية (6) ، وفي كتاب “فينوتي” الموسوم ب (The Translator's Invisibility) إشارة إلى “خفاء” المترجِم ؛ لما يمارسه من “عنف” ثقافي يخضع له النص المترجَم كرها ، دون مراعاة الخصائص اللغوية والثقافية لذلك النص (7)، أما “مونان” فقد ألف كتابا كرَّسه لتتبع الترجمات “الخائنة”، قرن فيه بين “الأدب الرفيع” و”الخيانة الزوجية”، وكأن (النص الأصلي) – عنده - هو “الزوج”، و(الترجمة) هي “الزوجة الخائنة”(8).
وفي ظني أن هذه المخاوف المشحونة بأجواء الثقة “غير المتبادلة “ بين المترجمين والنقاد ؛ تتمتع بنصيب من الصحة والوجاهة؛ ذلك بأننا نستشعر عند قراءتنا ترجمةَ أيِّ نص أدبيٍّ ؛ جدليةً حادةً ومستمرة بين “الوحدة” و”التعدد” اللغويين، حيث نحس بأن كل ترجمة تجهد نفسها في محاولة تحطيم هذه التعددية ، وإقامة تطابق بين وجهات النظر العالمية ، ومن ثم يبدو لنا فن الترجمة وكأنه ممارسة مزدوجة ؛ تغامر في التوفيق بين “إعادة الإنتاج” ، و”إعادة الإبداع”(9).
مسكين هو المترجم الأدبي ! يحاول اقتحام أسوار “اللغة الطبيعية” أولا ، ثم يدخل منطقة “اللغة الإيحائية” في اللغة المنقول عنها ثانيا ، ثم يجري العمليتين فيما يخص اللغة التي يريد الترجمة إليها ثالثا ورابعا ، ثم يكتشف في نهاية المطاف أنه لم يستطع القيام ب”المعادلة” الحقيقة بين الصور الأسلوبية في اللغة الأصل ؛ والصور الأسلوبية في اللغة المستقبلة ! فيتصرف حينئذ حسب هواه ؛ محاولا تعويض ما فوَّته عليه “تأويله الفني” من دقة الترجمة ، فيعارض الأصل “بإبداع خاص” ؛ يضفي به إسهاما جيدا أو رديئا على النص في صورته المترجَمة ! (10)
ثم إن النص مع ذلك لا يسلم من تحولات في أجزائه حال الترجمة ؛ إما بالتلخيص الجزئي الذي يحذف بعض العناصر اختزالا ، وإما بزيادة عناصر جديدة ، وإما بالتغيير في نظام الكلمات والجمل.. (11) ، وتزداد المسألة تعقيدا إذا نقل المترجم الفكرة العامة نقلا حرفيا على المستويين النحوي والمعجمي ، فتتراكب الإضافات على كره منه ؛ فلا يستطيع لها نقْبا! (12) ، فيستحيل التمييز – حينئذ - بين شكل الترجمة بوصفها نصا أدبيا ؛ وبين (التحريف الساخر ، الاقتباس ، المحاكاة ، الانتحال) ، ويظل القراء محاصرين أمام معضلة درامية ، أبطالها “الأمانة” و”الخيانة” تجاه النص الأدبي ! (13).
لقد مضى على الترجمات العربية زمان كان أغلب المترجمين فيه من أرباب الصحافة وأشباههم ، فطفقوا ينقلون إلى قراء جرائدهم بعض ما يسمونه “ ترجمات “ ، وما هي إلا تلفيقات مشحونة بتلك الخيانات ، إذ يقتصر المترجم فيها على نقل الأفكار والشخصيات والحبكات ؛ ثم يعيد تأليف عناصرها ، بما يرى أنه يلائم الذوق العربي ! (14) ، ف(طانيوس عبدو) كان يقرأ النص الفرنسي ، ثم يقفل الكتاب ، ليبدأ بكتابة ما علق في ذاكرته منه ، ثم يسميها “ترجمة” !.. و(نجيب الحداد) لم يكن يأخذ من الكتاب الذي يرغب في ترجمته ؛ إلا الأحداث المشوقة المثيرة ، فلذا ترجم رواية (روميو وجولييت) إلى “ شهداء الغرام “ ، وترجم (هيرناني) لفيكتور هيجو ، إلى “ حمدان “..! ناهيك عما أفرزته وتفرزه هذه الترجمات من أساليب تتملص من القواعد والاستعمالات العربية الفصيحة ، مغلِّبة القوالب الأجنبية التي تكيف الأسلوب الكتابي العربي لالتواءات غريبة ، تثير حميَّة حُماة العربية الفصحى ؛ فيثبون سراعا إلى إنكار هذه الفذلكات الصحفية المتهورة ! (15).
لهذا كله قرر أهل الاختصاص أنه لا يُراد من المترجم كونه لغويا فحسب ، بل وأسلوبيا وأنثروبولوجيا.. لأن تعلُّم لغة ما ؛ يعني تعلُّم مفردات هذه اللغة وتراكيبها ، وتعلم العلائق القائمة بين التراكيب والمفردات داخل ثقافة هذه اللغة وحضارتها (16).
وتعد الدراسات اللسانية الأمريكية سباقة إلى الكشف عن العلاقات بين اللسانيات والترجمة ؛ من خلال منهجياتها القائمة على إيضاح الفروق السيميائية بين حقول الألفاظ والمصطلحات والتعابير بين لغتين فأكثر ، وهو ما دفع “جورج مونان” إلى تأكيد استحالة “التطابق” الترجمي بين عنصرين سيميائيين ؛ داخل لغتين مختلفتين (17).
وبحسب “ مونان” : كيف يمكننا ترجمة مفهوم مثل : “ القطار “ ؟!
إننا بترجمة هذه الكلمة سنحيل على المعنى المنطقي لها ، ولكن اختلاف ثلاثة متحدثين في الثقافة اللغوية غير اللسانية ؛ سيبعث في ذهن كل واحد منهم تصورا لأشياء مختلفة ومتباينة ؛ فالأول سيتصور تتابع قاطرات يجرها محرك في جو مرح ، أو سفر ممتع في يوم عطلة ، والثاني سيتصور فاجعة عائلية ، والثالث لن يعدو تصور حركة الذهاب والإياب بين مكانين ! (18).
يخلص “مونان” إلى القول : إن هذه الاختلافات “المفهومية” تجعل الترجمة الدقيقة شبه مستحيلة ، كما أنها تشكك في إمكانية نقل “رؤية العالم” من لغة أدبية أصلية إلى لغة أدبية مستقبِلة ، بل وتشكك في إمكانية هذا الانتقال من فرد إلى فرد ؛ داخل الحضارة المشتركة لغويا ! (19).
ولكن هل يُطلب حقا من الترجمة الحرفية ؛ أن تجسد النص الأصلي بتراكيبه الأصلية وإن كانت غريبة على القارئ ؟
يرى “درايدن” أنه من المستحيل إنتاج ترجمة حرفية وجيدة في الوقت نفسه ، لذا وصف الترجمة الحرفية بأنها “ كمن يرقص على الحبل مكبَّل القدمين “ ! (20) ، وحلا لهذه المشكلة يدعو “درايدن” إلى المزج بين (الترجمة الحرفية) و(الترجمة الحرة) ، بأن تعطى الأولوية للمضمون الذي ينقله الكاتب ، وليس للتعابير الغريبة التي قد يتضمنها النص المترجم (21).
ويرى “يوجين نايدا” - وهو من مترجمي الإنجيل - أن الترجمة الحرفية درجات ، وأن هذا التعدد فيها يرجع إلى عوامل ثلاثة هي : طبيعة النص المترجم ، و الغرض الذي يرمي إليه كاتب النص بلغته الأصلية ، وطبيعة الجمهور الذي ينتمي إلى اللغة المستقبِلة ، والمعيار الأساسي – عنده - يرجع إلى تحديد الأولوية في النص المترجم أهو للشكل أم للمضمون؟
فمترجم “الشعر” يجب أن يعطي أهمية كبرى للشكل الجمالي ، وهذا لا يعني أن المضمون غير مهم ، ولكن ينبغي نقله بطريقة تحافظ على شكله الجمالي ، أما النصوص “الإرشادية” فالمضمون فيها أهم من الشكل ، وقد يتطلب هذا النوع من النصوص تحررا واسعا من القيود اللغوية عند ترجمته (22)، أما “شلاير ماخر” فيطمح إلى نص قريب جدًا من النص الأصلي، لكنه لا يريد أن يغض النظر تمامًا عن خصائص اللغة المترجَم إليها وأحكامها (23).
إن الترجمات الرديئة تبدِّد جهود المترجمين والناشرين والمتلقين على حد سواء ، وكل جهد يبذل لنقل أعمال فكرية وأدبية رديئة ؛ هو جهد تحرم منه أعمال جيدة تلبي حاجة ثقافية حقيقية ، وتعين الثقافة العربية والمجتمع العربي على التطور (24)، وليس هناك من بديل للترجمة ؛ إلا اكتساب اللغات الأجنبية الرئيسة في العالم - وعددها يناهز المئة - وهو أمر لا طاقة لأحد به (25).
إن كل تخلف وانحطاط في سبيل الترجمة يعني تأخر الثقافة التي يتقاعس أهلها في مضمار الترجمة ، وتخلفهم عن ركب الثقافة العالمي (26) ، فلذا ينبغي النهوض بالترجمة عبر وسائل متعددة منها : قيام نقد ترجمي ذي أسس وقواعد منهجية ، يتوصل النقاد من خلاله إلى كشف الترجمات الجيدة ؛ ليشجعوا منجزيها ، ويرشدوا القراء إلى الإقبال عليها ، وفضح الترجمات الرديئة ؛ ليردعوا الذين قاموا بها ، وليحذروا المتلقين من غثائها(27).
ومنها تدريب المترجمين وإعدادهم لغويا وثقافيا ومهنيا .
ومنها توفير المتطلبات المادية لعملية الترجمة ، وهو أمر لابد منه في التنمية الثقافية ، ولو أنه خصص لهذا المجال جزء يسير من الميزانيات المهدورة هنا وهناك ، لأُنجز عدد كبير من الترجمات ، ولأعطي المترجمون مكافآت ممتازة ، ولصار من حقنا – حينئذ - أن نطالبهم بإنجاز ترجمات جيدة .. أما في ظل الأوضاع الراهنة ؛ فإن ما يظهر في العالم العربي من ترجمات إنما ينهض به أشخاص يضحون بأولوياتهم المادية والمعنوية ؛ ليقدموا للثقافة العربية شيئا هي في أمس الحاجة إليه ! (28).
ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن للترجمة في الثقافة العربية اتجاهين هما : الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية وهذا هو “ التعريب “ ، والترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية وهذا هو “ التعجيم “ ، وبواسطة هذا الثاني تستطيع الأمة الإسلامية أن تقدم نفسها للعالم ثقافيا ، فيتعرف على واقعها الحضاري تعرفا صحيحا وواضحا ، بدلا من أن يستفرد بإيضاحه المستشرقون والمستغربون ! (29).
لقد كان للمترجمين أسوة حسنة في “أمريكا الجنوبية” ، التي ظلت تعاني عقدة الاستعمار ؛ فتحولت نظرية الترجمة – بمقتضى هذه المعاناة - إلى نوع من “ أكل لحوم البشر “ ، وهي نظرة تتفق مع بعض الطقوس البدائية المحلية هناك ؛ إذ ترى في أكل لحوم البشر ؛ عملية “امتصاص” وبعث جديد يمارسهما الأحياء في حق الأموات ، وعلى وفق ذلك يأخذ المترجِم من النص ما يصلح له ، ويرمي ما لا فائدة له فيه ، ولا ريب في أن هذه النظرة تتيح للمترجم بحبوحة من الحرية (30) ، وتمنح “درايدن” حق الخلاص من عُقدة (العنب) و(النبيذ) الإنجليزي .. إلى أبد الآبدين !
Danyallpshh95@gmail.com
الهوامش:
(1) يراجع : هجرة النصوص دراسات في الترجمة الأدبية والتبادل الثقافي ، ص10.
(2) الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق ، ص 2 .
(3) هجرة النصوص دراسات في الترجمة الأدبية و التبادل الثقافي ، ص 14 .
(4) دليل الناقد الأدبي ، ص 161 .
(5) مكونات الأدب المقارن في العالم العربي ، ص 259 .
(6) الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق، ص 1 .
(7) نفسه ، ص 1 .
(8) نفسه ، ص 2 .
(9) يراجع : مكونات الأدب المقارن في العالم العربي ، ص 257 .
(10) يراجع : نفسه ، ص (261 - 262).
(11) يراجع : نفسه ، ص 261 .
(12) نفسه ، ص (263 - 264) .
(13) يراجع : نفسه ، ص (260 - 261).
(14) نفسه ، ص (283) .
(15) نفسه ، ص (284) .
(16) نفسه ، ص (258 - 259) .
(17) نفسه ، ص (259) .
(18) نفسه ، ص (259) .
(19) نفسه ، ص (260) .
(20) الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق ، ص 13 .
(21) نفسه ، ص 14 .
(22) نفسه ، ص 16 - 17 .
(23) نفسه ، ص 18 .
(24) هجرة النصوص دراسات في الترجمة الأدبية و التبادل الثقافي ، ص 17 .
(25) نفسه ، ص 15 .
(26) نفسه ، ص 16 .
(27) نفسه ، ص 20 .
(28) نفسه ، ص 21 .
(29) نفسه ، ص 22 .
(30) دليل الناقد الأدبي ، ص 164 .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق