الاثنين، 4 يناير 2016

(اللا أخلاقي) لأندريه جيد

مشروع قراءة في قيم التعانق التركيبي (القسم الأول _1-9).
تامر الأشعري
قرأت في الأيام القليلة الفائتة طائفة من القصص والروايات العربية والمترجمة، يجدر بالذكر منها هنا (زوجة الشيطان) لألفريد هتشكوك، و(تيريزا) لأميل زولا، و(بيت سيء السمعة) لنجيب محفوظ، و(أحدب نوتردام) لفيكتور هوجو، وشيئا من رواية (الشمس تشرق أيضا) لإرنست همنجواي، وأخيرا (اللا أخلاقي) لأندريه جيد.
 وكنت أقنفش –على عادتي في تخير أطايب الألفاظ منذ طفولتي- أكثر عبارات هذه الأعمال السردية وهَجا ودفئا، وكان هذا على حساب اهتمامي بتسلسل الأحداث والعناية بخواتيمها الكوميدية او التراجيدية .. غير أنني لاحظت وأنا في مرة الموازنة الذهنية المبطّنة بين كل رواية وأخرى، تنوعا في الأساليب السردية، وطرائق الاختيار والتركيب، ومدى العناية بتعدد الأصوات وبولوفونيتها – على حد تعبير ميخائيل باختين-.
المهم، وجدت أن إميل زولا مثلا، يميل إلى تسريد الحوارات أكثر مما يُنطق شخصيات روايته بها ، فهو الراوي العليم المطلع على كل خباياهابلا استثناء.
أما رواية نجيب محفوظ؛ فإنها سيئة السمعة كاسمها، لا طبقا للمعايير الأخلاقية والرهبانية، لا بل طبقا للأعراف اللغوية والتعبيرية الرفيعة، فإن لغته فيها مرمّزة ومُكسّرة وملتوية، وقد بدت لي أشبه شيء بترجمة خاطئة لفيلم رومانسيٍّ كوريٍّ !
وأما رواية فيكتور هوجو، فيغلب عليها فخامة التصوير والتجسيد والتشخيص، على حساب الصنعة اللغوية.
وأما رواية إرنست هيمنجواي، فهي أشبه بكتاب فلسفي منها برواية أدبية .
وأما رواية اللا أخلاقي لأندريه جيد، فقد رأيت فيها شيئا متميزا؛ هو ثراؤها التعبيري التركيبي على وجه الخصوص، وهو ما سأتناول جزءه الأول (1) داخل القسم الأول بشيء من التفكيك والتحليل، بهدف رفد تعابير الكتاب والمبدعين بشيء من التنوع والغنى، ولفت أنظارهم إلى ما يمكن أن يكون منجما تعبيريا يستحق ان يحتذى في مسيرة صراعهم الأبدي مع سلطة الصياغة اللغوية للأعمال الأدبية.
1-7- تنوع افتتاحات الجمل والفقرات :
يتنقل أندريه جيد بين أفنان التراكيب الافتتاحية في الجزء الأول من القسم الأول ، بحيث يمكن ان نرد مجملها إلى العناصر الصياغية التالية :
(نعم، لا، فعلًا.. الجوابية/ كم التكثيرية/إنّ التوكيدية/ هاهو ذا-هذا الإشارية/ لكن الاستدراكية/قد- لقد التحقيقة/عندما – حينما الظرفيتين/ آه !- ياله من ..! التعجبيتان/ ماذا؟ ثم كيف؟ فمن ؟ هل يمكن؟ تُرى؟ . ألا يكفي ؟. الاستفهامية/مما-لذا- لذلك التعليلية/ وما إن  - حتى- ولمْ _إلا الاستثنائيتان/ربما - لو – فسوف الاحتماليتان/فعل الأمر الاقتراحي=فاستمعو إليّ/سوف التسويفية/الأفعال المضارعة والماضية عموما، وما يدل منها على المتكلم فردا أو جماعة خصوصا = أعرِف - يؤكد ميشيل - وننتظر إجابتك/الجمل الفعلية المنفية ب لا-لست-لم- لن= لا سحُب - لست حزينا - لا نود أن نتركه- لم نر ميشيل/جمل اسمية خبرها فعل ماض او مضارع= فالجو هنا يملؤك بقدسية بالغة العمق/جمل اسمية أخبارها ضمائر غائب/جمل شرطية : وإذا لم/ضمائر المتكلم والمخاطب المفرد كثيرا = أنت تعرف أي صداقة جامعية قوية ربطتنا...).
وقد أتاح له هذا الكم الكبير من المخزون التركيبي على امتداد الرواية أن ينتج مالا يستطاع حصره من الامتزاجات والتأليفات بينها على مستوى الجمل الرئيسية والفرعية على ما سنرى في الأمثلة القادمة.
2-7- الألفاظ التأطيرية :
من الملامح البارزة لتعبيرات جِيد؛ أنه لا يلقي التركيب في وهاد المباشرة، بل يقدم له ببعض الألفاظ المؤطِّرة، ومن هذه الألفاظ مثلا : (الأفعال النفسية = أعترف- أبوح/الفعل = بدا/الفعل التقريري = كما تعرفون/الفعل = راحَ ...) على نحو ما تجلِّيها المقتطفات التالية :
(أعترف أنني لا أعرف الإجابة = بدلا عن : لا أعرف الإجابة/بدا لي أنهم قد أصابهم التأثر= بدلا عن : أصابهم التأثر/كما تعرفون/رحت أسعُل = بدلا عن : أسعُل/أحس بتعب ريب = بدلا عن : تعبتُ/راحت مارسلين ترتعد من البرد = بدلا عن : ارتعدت مارسلين من البرد ...).
3-7- التثغيرات الظرفية وغير الظرفية :
كما أنه يكثر في ثنايا جُمَله، بتثغيرات زمانية ومكانية، وأبرز هذه التثغيرات هي :
(سرعان ما/وعلى الفور رحلنا/منذ ثلاث سنوات/وعند مروره الأخير في باريس/ومع ذلك لم تنقطع/حيث كنا نتمدد/وفي نهاية النص/ذات مساء/في المرة الأخيرة/ببطء عبر الزمن/وأنا في الخامسة عشرة من عمري/وللمرة الأولى/آنذاك/فجأة أحسست/وبدلا من الحب تملكتني مشاعر باردة/بدورها دقّقت فيّ/ولمرات كثيرة/في صباح اليوم الأخير/بضعة أيام/في صباح كل يوم/بعيدا عن صرير الريح/جلست على مقربة منها/..).
ومن شأن هذه التثغيرات أن تزيد تراكيبه حسنا وسبكا ومتانة ، وتنقذها من الطول والرتابة، وتوهم القارئ عبر ثرائها وكثرتها بواقعية الزمن السردي وما يجري فيه من أحداث، وبدقة ملاحظ السارد كل شاردة وواردة من دقائق تلك الأحداث بتسلسلاتها الوقتية.
4-7- التتابع العطفي مع تنوع الإحالات الضمائرية بين شخوص المشهد :
يكثر جيد من تتابع الأفعال السردية، لكن مع تغير الإحالة الضميرية بين كل وفعل، ومن أمثلة ذلك قوله في عن حبيبته مارسلين وهما على ظهر السفينة (وقد وضعت الضمائر الإحالية بين معكوفين لتوضيح هذه الآلية) :
((مالتْ بجبهتها نحوي [هي]- وجذيتُها برقة إليّ [أنا]- رفعَتْ عينيها [هي]- وقبّلتُ أهدابها [أنا].. بدأنا في الكلام [نحن]، سحرَتني جملها الساحرة [هي]، تصرّفتُ على قدر استطاعتي [أنا]...)).
وهذه التقنية تسهم في الكشف عن طبيعة العلائق الأحداثية بين شخوص الرواية، ويمنح السرد فاعلية تصورية، وحركة تصويرية، تنشط ذهن المتلقي، وتذهب به بعيدا داخل سراديب الغواية الحكائية.
5-7- التوازي التكراري :
حيث تتتابع التراكيب المتشاكلة داخل الفقرة الواحدة، كتتالي المنفيات في مثل قوله :
((لم يكن ذلك هو الصفاء البالغ.. ولا حركاته الحمقاء.. ولا نظراته البالغة الوضوح..)).
أو تتالي الأفعال الماضوية في مثل قوله :
((فقدتُ أمي..، وانشغل بي أبي، وأحاطني، ولفني بمشاعره، واهتم بتعليمي ...)).
وهذا بلا مراء مما يصاعد المعنى، ويرتقي بدراميته، ويمنحنا مع كل تقدم جديد علما جديدا، علاوة على ترسيخ المعطوفات بعضها لبعض من الناحيتين الدلالية والإيقاعية.
6-7- عبارات تنبيهية :
يستعمل جيد أحيانا عبارات تنبيهية واعتراضية من قبيل :
((أقول لك أيضا/فاستمعوا إليّ/هناك شيء آخر مهم/ويهمني أن أبوح لكم ببعض غبائي/ كان ذلك – على ما أذكر-/ وحسب الفكرة التي تعتمل في أرواحنا فإن ../على الأقل/كما يقال/وبكل رقّة فقد أسندتها إلى العرَبة/لحسن الحظ فقد تذكرت الوشاح/...))، ليظل ذهن القارئ مشدودا إلى أحداث الرواية، وليبين عنايته خصوصا بالأحداث المسبوقة بهذه العبارات التنبيهية، وليخلق بينه وبين المتلقي نوعا من الألفية التخاطبية التي تموضعه في قلب مجريات الرواية وبين شخوصها، حتى يشعر وكأنه واحد منها.
7-7- التتابع التنويعي :
وذلك داخل الفقرة الواحدة، ومن صور هذا التنويع الجُمَلي ما يلي :
·        جملة فعلية ناقصة + جملة اسمية مبتدأها اسم ظاهر + جملة اسمية مبتدأها ضمير غائب ، في مثل قوله :
((كان هذا الوادي أشبه بالصحراء، فدرجة حرارته عالية، وهو كثيف العشب)).
·        كم التكثيرية + فعل مضارع لمفرد المتكلم +أن التوكيدية واسمها وخبرها + ضمير المخاطبين + جملة مضارعة مستقبلية + فعل أمر  اقتراحي :
((كم أنا في حاجة لأن اتكلم إليكم...أعرف أن التحرر ليس شيئا منشودا...أنتم تعانون لأنني أتكلم عن نفسي ...سوف أقص عليكم قصة حياتي ... فاستمعوا إليّ ...)).
·        قسَم مضمر + اسم إشارة للتعليل +اسم موصول مع جملة الصلة المفتتحة ب(كم) التكثيرية :
((... لقد تزوجتها عن غير حب، وذلك بدافع مجاملة أبي، الذي كم خاف أن يموت ويتركني وحيدا..)).
·        جملة فعلية ماضية+ ظرف مكان+جملة فعلية منفية+ جملة فعلية معطوفة على ما قبلها+ شبه جملة مقدمة على الفعل الماضي :
((قضينا ليلية عرسنا في شقتي الباريسية، حيث أعددنا سريرين، لم نبق في باريس سوى الوقت الذي كان يلزمنا.. ثم اتجهنا إلى مارسيليا، ومن هناك أبحرنا إلى باريس).
·        جملة اسمية خبر المبتدأ فيها فعل +جملة فعلية مستأنفة بالولو + جملة فعلية مستأنفة بلا واو+ جملة اسمية خبرها ضمير غائب :
((أشياء كانت نائمة لم يسبق لي أن مارستها، وحفظتُ في داخلي كل أسرارها الشابة، كنتُ أكثر دهشة ...، وما أثار إعجابي حقا هو فرحة مارسلين)).
·        جملة فعلية موطّرة بالفعل بدا + جملة فعلية مسبوقة ب(قد) التحقيقية + جملة فعلية غير مسبوقة بشيء+جملة فعلية مسبوقة ب(لكن) الاستدراكية+ جملة فعلية منفية ب(لم) الجازمة :
((بدا النهار في اليوم التالي نديا، فقد فوجئنا ... برؤية السماء وقد تلبدت بالسحب، وراحت الريح تهب، ولكنها كانت أخف من البارحة، لم تكن العربةُ تقلع إلا في المساء ..)).
وبتأمل أوسع لهذا التنوع وأنماطه؛ يمكن أن ينفتح باب من التلوين الصياغي للكتاب والشعراء، يخرجهم من دائرة التأليف النمطي التي يقعون في فخاخها وقوعا لا إراديا في كثير من الأحيان، ويمنحهم الفوز بالمتلقي، بأن تشده تلوينات نصوصهم شدا إلى قراءتها حتى آخر قطرة منها، فيحس معها بمتعة التذوق والقراءة من حيث لا يحتسب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق