تامر
الأشعري
ما فتئ صابئة النقد العربي و الغربي يُكرهون مرتادي
البحث الأدبي على اعتناق " وُحدة التحليل المنهجي" ، في مقابل سعيهم إلى
نبذ "المنهج التكاملي" ؛ بحجة أنه يمثّل "إجراء تلفيقيا" ، و
"شِركا منهجيا" ، يورد صاحبه "نار الحيرة" ، ويُحِلُّ به سخط "الوحدة
العضوية" التي زعموا أنها لا تغفر أن يُشرك بها !
ولعل هؤلاء غفلوا عن حقيقة الأمر التي لأجلها وُضعت معظم المناهج
النقدية في الشرق والغرب ، وهي تحقيق غايتين : أولاهما توضيح العمل الأدبي توضيحا
تاما ، وثانيهما تقويمه تقويما سليما ...
فلا حرج – إذن - على الباحث أن يستعين بإجراءات المناهج النقدية التي
لا تعدو هذين الطرفين ، و لْيزدْ إليها – بعد ذلك - من جهوده العلمية ، وانطباعاته
الفذة ما شاء !
ثم إن المناهج النقدية لا تكون صالحة لاستكناه العمل الأدبي ؛ إلا
إذا اتخذها الناقد منارات ومعالم ، فإذا جعلها حدودا وقيودا ؛ ضرَّ نقده وأفسد
الفن ؛ لأن كل قالب محدودٍ قيدٌ للإبداع .
وما كلُّ تصنيف نقدي كافيا لأن يعتمده الناقد اعتمادا نهائيا ، ولا كل
ناقد متعمق يستطيع حمل نفسه على طريقة واحدة أو منهج واحد ، بل إنه لا يبرح حتى يستثمر
كل الفروع الإجرائية التي يتطلبها العمل الأدبي ، ويبارز سائر المناهج التي تحاصره
.
ولعل فيما شهدناه ونشهده من تعدد في المناهج النقدية ؛ أكبر دليل على
أن منهجا واحدا لا يغني غناء تاما في البحوث الأدبية ، فلابد – إذن - أن يتحول عقل
الباحث إلى ما يشبه مرآة تعكس أضواء كل تلك المناهج : تعكس فكرة الفردية والأصالة
، والفصيلة الأدبية ، والبيئة وأحوال العصر ، والتطور التأريخي ، والحاجات
المجتمعية ، والتزام الأديب ومدى تمثيله ثقافة مجتمعه ، ورواسب اللاشعور الفردي
واللاشعور الجمعي ، وعناصر الجمال الكلي للتعبير والموسيقى ، والخصائص الأسلوبية
والبلاغية والنحوية واللغوية ، كما تعكس الانطباعات الذاتية ، والملاحظات
الموضوعية الكاشفة عن صلة الأديب بتراث أمته .
إن البحث الأدبي أعقد من أن يخضع لمنهج معين ، ولا يمكن أن يحتويه طراز
محدد ، لذلك كان من الواجب على الباحث أن يفيد من المناهج والدراسات النقدية كلها ،
من خلال "منهج تكاملي" تنكشف له به جميع الأبعاد : في الأديب ، وفي
الآثار الأدبية على حد سواء !
إن من أهم سمات "الناقد التكاملي" هي تناول العمل الأدبي
من زواياه التي يتطلبها ذلك العمل - أيا كان مجالها النفسي أو الفني أو التأريخي ...-
، فإذا درس عصرا من عصور الأدب وأراد الكشف عن تأثير الطبقات الاجتماعية في شخصيات
الأدباء وطبيعة أدبهم ، والتعرف على عقيدة الأديب ونحلته ومدى التزامه بها أو
تخليه عنها ... غلِّب "المنهج الاجتماعي" ، وإذا ابتغى استيضاح النمط
الجماعي الذي ينتمي إليه الأديب مع من يشاركه أصول الصنعة الفنية من معاصريه ؛ غلّب
"المنهج الطبيعي" ، وإذا رغب في
استكشاف دخائل الأديب ، وصفاته الخلْقية و الخُلُقية ومدى تأثيرها في فنه ، وملامح
هذا التأثير في لغته وأساليبه ، وعُقد النقص التي كان يعاني منها ... غلّب
"المنهج النفسي"، وإذا عرضت له في العمل الأدبي مسألة لغوية عالجها
بـ"التحليل اللساني" ...، وذلك كله مشروط بأن لا يُغفل القيم الفنية
الخالصة ، بل يجعلنا نعيش جوَّ الأدب وأريحيته، ولا يخنقنا بسرد البواعث النفسية
المقررة سلفا ، لأن (النفس المبدعة) أوسع من تحليلات الفرويديين ، و(خيال الأديب)
أكبر من تنظيرات البلاغيين ، و(لغة الفن) أعمق من تأطيرات البنيويين !
و "الناقد التكاملي" هو الذي يركِّب من مناهج من سبقه
وإجراءاتهم التحليلية خلقا سويا لا فارضًا ولا بكرًا ؛ فيرى : أنه لا غنى لنفسه عن
فهم فلسفة الجمال ؛ لتضيء له الطريق إلى مقاييس الجمال الفني وقيمه وتفسيراته ،
وتوسع آفاقه الفكرية ، وتنمي مداركه في تصور وظيفة الفن في الحياة، وأنه لا عذر له
في الجهل بالدراسات التأثرية التي من شأنها أن تغذي ذوقه ، وتعده للحكم البصير على
العمل الأدبي، وأنه شديد الحاجة إلى الاطلاع على الدراسات الموضوعية ؛ لأنها تعمق
صلته بالأصول الفنية الموروثة وما يرتبط بها من تقاليد ... ، وأنه لا بد له – قبل
هذا وذاك - من إتقان التحليل اللغوي والنحوي والبلاغي للنصوص الإبداعية.
إن الناقد التكاملي يأخذ من "نجيب الكيلاني" (إسلامية)
النقد الجامعة بين متعة الفن ومنفعته ، ويستمد من "سارتر" و "لاكان"
الاعتراف بـ(الآخر) عنصرا فاعلا في تكوين الذات و الوعي بها - لكن دون اعتبار الآخر شريرا مدمّرا للإنسانية - ، ويفيد من "جوته" (عالمية)
النقد ، ومن "ماركس" و "إنجلز" (شموليته) – لكن دون الاقتراب
من شيوعيتهما - ، ويستمنح من "جاكوبسون" (هيكله الرسالة الأدبية ووظيفيتها)
، ومن "جورج لوكاش" و"لوسيان جولدمان" (توفيقهما بين البنيوية
الشكلانية وبين التفسير الواقعي للفكر والثقافة) - لكن بعيدا عن ماركسيتهما -، ويستلهم
من "ستيفن غرينبلات" (تأريخانيته الثقافية) - لكن دون إهمال القيم
الجمالية في النص الأدبي-، و يستعير من "هيرش" و"جادامير" مبادئ
الـ(هيرمونيطيقا) - لكن دون إلغاء دور المؤلف في تحديد دلالات النصوص الأدبية - ،
و يستوحي من "دريدا" (تقويضيته) - لكن مع البناء بعد التفكيك - ، ويستضيء
من "كريستيان توماسيوس" بنزعته (التنويرية) المعتدلة ...، فإذا أخذ كل
ذلك ؛ فقد استصفى النواحي الموضوعية لديهم بعد أن نزع عنها ما يحيط بها من مظاهر
ضعفهم ومماحكاتهم وفرديتهم ، واطَّرح في الوقت نفسه كل تافه محدود من أعمالهم
وتنظيراتهم .
ولو أنه قُدِّر للناقد التكاملي أن ينقد قصيدة شعرية - مثلا - ؛ فما
أظنه سيحدثنا إلا عن محتواها ، ومناسبتها التي قيلت فيها ، و منابعها من تراث
أسلافها ، ووجوه التشابك بينها وبين آثار أدبية معاصرة ذات صلة بها ، ثم يحللها
تحليلا وافيا بحسب ما يعرف من أخبار صاحبها ، ورغباته ومخاوفه النفسية ، وما
تتضمنه من "مُثُلٍ عليا" تجسد التجربة الجماعية ، وسيكشف عن فصاحة
ألفاظها وغموض معانيها وبنية نظامها ، والعلاقات بين رموزها وما توحي به ، وما
فيها من ضروب الجرس الإيقاعي وترابطاتها الداخلية ، وسيميز الملامح المتفردة من
أسلوبها ، وقد يتحدث عما تشير إليه القصيدة من قضايا فلسفية أو دينية أو قيم
ثقافية ، كما أنه سيضعها في إطارها العام من آثار منشئها ، ثم يقيِّم جمالياتها
وغاياتها .
هذا التكامل النقدي المثالي لا يمكن أن يكون مثل طبخة تُصبُّ
محتوياتها في قِدر واحدة على نار هادئة ، بل لابد من بنائها وفق خطة منهجية منظمة
ذات أساس وهيكل مرسوم ، وربما ادعى الماركسيون أن ماركسيتهم هي الإطار الذي يمكنه
استيعاب كل هذا التكامل ؛ لكن الماركسية تفتقر إلى المرونة و الدقة والعلم والألمعية
، ثم إنها لا تصلح من الناحية العملية لتكون نظاما تكامليا يستوعب كل مظاهر التقدم
.. نعم يمكن لعلوم مثل "الانثربولوجيا" أن تتجاوز محيطها ، وتحتضن ما
ذكرنا من المذاهب وأشباهها .. لكنها ستفتقد طابعها المميز الخاص بها، وفي رأيي أن
نظرية "النقد الإسلامي" - بمفهومها المنفتح – يمكنها استيعاب أسس منهج
تكاملي وإن كانت بعض تلك الأسس غربية المنشأ والنكهة - ؛ لأن الإسلام جاء ليتمم
مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ، ويرسِّخ ما كان منها حسنا سائدا ، هذا مع ما عُرف
عنه من مراعاة خصوصيات الأقوام في بيئاتهم الاجتماعية ، وأحوالهم التأريخية ، وأطرهم
الثقافية المتباينة بتباين الأزمنة والأمكنة ، على وفق مبدأ " لا إكراه في
الدين " .. ولا إكراه في " النقد " !
Tammor100@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق