الاثنين، 4 يناير 2016

الشتاء .. والشعراء *قراءةٌ في وسائل التدفئة*


تامر الأشعري
الشتاء هو الشتاء، بشمسه الفاترة، وأثيره اللافح، وزمهريره الذي يخشّنُ الخدود، ويصكُّ الأضراس، ويدغدغ العِظام، ويشقق الأقدام ... غير أن له في سنوات الشعر الضوئية طعما آخر خلّابا، ونكهة شبِقةً آسرة، تجعلك تتمنى لو كنت "نصر بن حجّاج" الذي قالت فيه إحداهنّ :
ألا سبيل إلى خمر فأشربها ** أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجّاج؟
فقالت لها امرأة معها : "مَن نصر بن حجّاج"؟. قالت : "أجل !. ودِدت أنه في ليلة من ليالي الخريف .. وأطوَل ليلة من ليالي الشتاء .. وليس معه غيرُه" !
ولعل هذه إنما جعلت (محبوبها) و(الخمر) توأمًا من الرّضاعة؛ لأن الخمر والرجل، مما يمكن حبسه في القوارير زمانا طويلا، فلا هو مقتولٌ .. ففي القتل راحةٌ، ولا هو ممنونٌ عليه فيُطلقُ ..!
وليس بمُمكنٍ أن يكفيَك شرّ عناد الشتاء وخباثته؛ إلا شَاعرةٌ في حماسةِ هذه، وبمواصفات قريبة من مواصفات (أقلام اليراع) عند الأمير عبد الله بن طاهر -على ما حكاه عنه أبو العباس الصوليُّ في "أدب كُتّابه"- : ليِّنة المعاطف، نقية الشحم، مكتنزَة الجوانب، ضيِّقة الجوف، رزينة الوزن .. دقيقة القُضبان، لطيفة المنظر، حسنة الاستدارة، بعيدة ما بين الكعوب، معتدلة القوام، قائمة على سوقها .. يكاد أسفلها يهتزُّ من أعلاها؛ لاستواء رؤوسها بأصولها .. قد تشرّبت الماء في لحائها، وبلَغَت في النضج منتهاها ...إلخ !
وبالجملة؛ فإنه ينبغي أن تختار منهن تلك التي تشبه بعض الإليكترونيات الصينية الحديثة، بتعدد أغراضها، وتوفُّر ملحقاتها .. حتى لو كان من ملحقاتها (الكفَن والماء)، على حدّ بوح السرّي بن عبد الرحمن، إذ قال :
كفَّنوني إن متّ في دِرع أروَى ** واجعلوا  لي مِنْ بئر عُروة مائي
سُخنةٌ في الشتاء باردة الصيـــ ** ــف سراجٌ في الليلة الظلماءِ !
غير أني لا أظن أن يتمّ لك نجاح حاجتك، والظفَر بطِلبتك؛ ما لم تكن جيوبُك حُبلى في "شهرها التاسع"،  ذلك أن المرأة لا يهمُّها منك إلا شقك الأيسر؛ لأن فيه قلبك .. وجيبك، وفي هذا المعنى يقول متمم بن نويرة:
ولا بَرِمٌ تَهدِى النساءُ لعِرسِه ** إذا القَشْع من برْد الشتاءِ تقَعْقَعا !
و (البَرِم) هنا هو المُفلس، الذي تتصدق النساء على زوجته بالأكسية الثخينة إذا جاء الشتاء، لعلمهنّ بأن حالتهما المادية والجسدية، لا تسمحان لهما بالاستغناء ببعضهما عن تلك الأكسية !
ويستحسن لك أن لا يقتحم الشتاء عليك مخدَعك، وإلا وقد أعددت له عدّته، وجهّزت له أُهبته، وإلا وقعت في حيص بيص، وكنت أحقّ الناس بأن تأوي إلى حفرةِ كان العرب يسمُّونها : "القرامِيص"، كما قال الأول :
جاء الشتاء ولما أتّخذ ربَضًا ** يا ويح كفيّ من حَفْر القَراميص !
قصَد بـ(الرّبَض) : المرأة، و(القراميص) حفرةٌ كان الأعرابي/الأعزب يدخل فيها لتحميه من شرّ الحرّ والبرد !
ولو أن هذا الأعرابي امتلك شيئا من حسّ فدوى طوقان، لكان احتال لتدفئة نفسه بمثل قولها :
وكنت أسمع النساء حول موقد الشتاء،
يروين قصة الأمير، إذْ أحبَّ بنت جارهِ الفقير..
أحبها؟ وترعش الحروف في كياني الصغير؛
إذَنْ هناك حُبّ ؟
وياحسرتاه عليه ! فإن الحظ وإن كان قد أسعفه بلفيف من الجيران الفقراء؛ إلا أنه لم يسعفه بابنة واحد منهم وبالمواصفات التي ذكرنا ... لكي يحبّها، ويستدفئ بأحاديثها حول موقد الشتاء، أمام مدخَلِ الخِباء !
وفي مذهبي الشتويّ؛ يبدو ذلك الأعرابيُّ صاحب حفرة القراميص؛ أحسن حالا من صاحبنا الذي روى قصته ابن الجوزي في كتاب "الأذكياء"، فقال : " كان حاجب باب ابن النسوي ذكيًا؛ فسمع في بعض ليالي الشتاء صوت (برَّادة/آلة لتبريد الماء) فأمر الجنود باقتحام الدار؛ فأخرجوا رجلاً وامرأة [زانيَين].. فقيل للحاجب : من أين علمت هذا؟. قال : في الشتاء لا يُبرَّد الماء .. وإنما هذه علامةٌ بين هذين"!
أنا على ثقة أن ذكاءً كهذا الذكاء سيعجبكم، فقد اكتشف ذلك الحاجب أن استعمال البرادة في الشتاء لا معنى له، فلذلك كان باعثا على الرِّيبة، فما لبث أن فضح العاشقَين اللذين جعلا "صوت البرّادة" كلمة سر حساسة، لا يفهم دلالتها على "الالتقاء" سواهما..
فكيف لو علمتم أنني أذكى منه في تحليل الأمور، وفك شفرات الأشياء؟..
إنّ (صوت البرّادة) لم يكن شفرة سرية بينهما ولا هم يحزنون؛ بل الظاهر أن تلك المعشوقة كانت تتحلّى بالحدود القصوي من عوامل التدفئة الشتوية، وهي العوامل التي لخَّصها بعض الأعراب في كلمتين خفيفتين ثقيلتين، فقال : "تُروِي الرضيع، وتُدفئ الضجيع .." .. فكأنَّ رفيقها أحسَّ بارتفاعٍ مهُول في درجة حرارة الغرفة، ونسي أنه في الشتاء، فهرَع إلى البرّادة .. فشغّلها !
ولست أرى أكمل عقلا، وأحسن بعلا، من والد الشاعر لبيد بن ربيعة العامري، الذي كان يستكثر من الأرامل في الشتاء، فيجعلهنّ له (قطينًا)، أي : خدَما وحشما، ليعلّم الشتاء كيف تجري حربُ الأعصاب على أصولها، يقول لبيد :
 وأبي الذي كان الأرا ** مِلُ في الشتاءِ لهُ قطينَا !
ولمزيد من التفاصيل حول هذه القضية؛ اسأل الشاعر  ابن سُكّرة، يخبّرك بمذهبه في التدفئة الجامعة المانعة، حيث يقول :
جاء الشتاءُ وعِندي منْ حوائِجِه ** سبْعٌ إذا القطْرُ عن حاجاتِنا حُبَسا
(كِنٌّ) و(كِيسٌ) و(كانونٌ) و(كاسُ طِلاً) ** بعْدَ (الكَبابِ) و(كفٌّ ناعمٌ) و(كِسا) !
وبعد ...
فإن أملي فيَّ وفيك أن نسارع إلى كل هذا قبل أن تحدودب ظهورنا؛ ويدركنا المشيب، فلا يكون لنا بعد ذلك من دِفئهن نصيب، فنبيت نزعجَ أولادنا وأحفادنا بتأوّهاتنا، كما فعل أحدهم من قبلنا، فقال :
ألا أبلِغ بنِيّ بَنِي ربيعٍ ** فأنذال البنين لكم فداءُ
بأني قد كبُرت ورقَ عظمي ** فلا يشغلكم عني النساءُ !
وإنّ كنائني لنساءُ صدقٍ ** وما أشكو بنيَّ وما أساءوا
إذا جاء الشتاء فأدفئوني ** فإن الشيخ يهرمُه الشتاءُ !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق