الاثنين، 4 يناير 2016

فانتازيا (الأنثى) و (اللا- مكان)


*محاولة قراءة في أحداث فيلم (the rambler 2013)*
تامر الأشعري
يدور الفيلم حول فكرة الروح المتجوّلة في اللا- مكان/المعادل الموضوعي لعالم البرزخ، يلتقي فيه بطل الفيلم بمجموعة من الأشخاص الذين لا يعرفهم؛ باستثناء (أخيه وزوجة أخيه) المقيمَين في إحدى المزارع الريفية المشمسة، و(طيف حبيبته)، الذي يتجوّل معه في كل مكان يحلّ فيه.
1-4- فانتازيا الحَيّز :
يمتزج في هذا الفيلم الواقعي الممكن بالسحري المختلَق، إذ تدور أحداثه في حيز مكاني سُمّي باسم (اللا-مكان)، وهو  حيّز ذو ملامح ريفية شتوية تبعث على الملل، ومن ثم الدوران في حلقة مفرغة من الارتحالات، في أجواء مشمسة كثيرا، ومظلمة أحيانا.
يُستدعى البطلُ إلى منازل لا علاقة له بأهلها ولا معرفة له بهم، سوى أن سائق السيارة دعاه إليه وبين له أنهم أهله.. وهناك يحدث أن يلتقي بمجموعة من الشخوص، وفجأة تتبخر هذه الشخوص وتتلاشى في الهواء، وتتعطل آليات الوجود البشري وقوانينه .. ثم تعود من جديد بعد لحظات فارقة.. يشاهد في تلك اللحظات الفارقة؛ جثة مسلوخة الجلد، تزحف نحوه على بلاط المنزل وفرشه، وبجوارها مجموعة متفرقة من الزواحف المخطّطة، والمقززة.

2-4- فانتازيا الشخوص :
لا يحمل بطل الفيلم اسما لا هو ولا سائر الشخصيات الأخرى التي تشاركه التجوال بالمصادفة، زيُّه زِيُّ رعاة البقر، غير أنه ينفي لنادلة المقهى أية علاقة لمظهره بهذا الوصف، دون تقديم أية معلومات أخرى عن سبب ارتدائه هذا الزي، أو الكشف عن شيء من ماضي شخصيته.
ومن أوائل ما يلاحظ في امتزاج الواقعي بالسحري في الفيلم هو ظهور وميض ذي صوت/نغمة مميزة فوي الأجواء التي يمشي تحتها البطل، ثم تتابع الأحداث على نحو مُملّ وغير متوقع في الآن نفسه.

3-4- فانتازيا الموضوع الحكائي :
يسعى الفيلم إلى البرهنة على صلاحية مادته السردية، استنادا إلى الخلفية الأسطورية والدينية، التي تعتمد فكرة "الأرواح العالقة"، و"أرض التيه" .. و"عودة أرواح الموتى"؛ للانتقام من أحبابها وخصومها في هيئات وأشكال جسدية مخيفة وبشعة، على نحو ما نرى عليه طيف حبيبته في آخر الفيلم.
كما يرتكز الفيلم على (مغامرة حُبّ) مجهولة لدينا، خاضها البطل، ثم ما لبث أن تراجع عنها، فتقضي حبيبته نحبها بسبب ذلك.
ما ماضي هذه المغامرة وما تفاصيل حبكتها؟ هذا ما لم يقل عنه الفيلم شيئا، بل اكتفى بأن يطارد البطلَ طيفُ حبيبته : تارة في المقهى، وتارة في الحقول، وتارة عند ضفة النهر القاحلة (!)، وتارات أخرى داخل المنازل التي يستضاف إليها...
وهي في كل لقاء؛ تفاجئه بحضورها، وتهمس في أذنيه بحفنة من الكلمات تعاتبُه بها، وتطالبه بعدها بأن يتبعها إلى العالم الآخر، بحيث يتردد في الأجواء صدى عبارة "تعال معي !" مرارا عديدة، وفي أكثر من موقف.
يسربل طيفُ المرأة/الحبيبة، وحركات ربة المنزل/العاشقة الأجواءَ بشهوةٍ الإرادة البشرية القلقة، غير أن البطل لا يلقي لذلك بالا، ومن ثم يحلُّ عليه السخطُ الأنثوي.

4-4- فانتازيا الأحداث وحبكتها :
من الطبيعي أن لا يخضع هذا النمط الفانتازي (المتذبذب بين الخيال والواقع)؛ لمقاييس المعقولية والتناسق والإمكانية، فباستثناء بداية الفيلم التي تُظهر البطل مسجونا، ثم خارجا من السجن بحثا عن عمل، تبدو بقية الأحداث مشتتة، وغير منطقية، تتراوح بين كثرة تنقلاته في دائرة مغلقة من الأحياز الجغرافية التي لا تسوقه إلى مكان إقامة يرتضيه، بل ولا تدعه يتجاوز حدودها، فكأنه يعيش في عالم برزخي، يحاول الخروج منه إلى جنة أو جحيم، ولكن لا جدوى  !
ولعل الخيط الإقناعي الوحيد الذي يربط مشاهد الأحداث هو التشاكل فيما بينها، فالرجل كثير الارتحال في (اللامكان) من أجل الخروج من رِيفِ التيه، للحصول على عمل، يمتطي  في كل ارتحالة؛ سيارةَ سائق عابر مجهول، ومن ثم يحدُث بينهما من تبادل النظرات التائهة، والتحديق المتفحِّص المُمِلّ، أكثر مما يدور بينهما من الحوار والمؤانسة.
يظهر أحد سائقي السيارات الذين يقلونه، وقد حشا خلفية سيارته بجثث ملفوفة بالقطن والشاش، لتبدو في هيئة "مومياوات طازجة"، وهي جثث تبين للبطل فيما بعد؛ أنها لأناس أوهمهم ذلك السائق؛ بأنه سيضع على رؤوسهم جهازا لقراءة أحلامهم، وما إن ينوّم السائق ضحيته بغاز التنويم؛ ويضع الجهاز على رأسه؛ حتى يهتز الجهاز ، ويفجر رأس الضحية "الحالم" ويبعثر دماغه وعينيه على جدران الورشة... وتنجح المهمة، إذ إن الجهاز  -عقِبَ ذلك- يسجل أهم أحلام التي كانت تدور في رأسه قبل أن يصير مومياءً !
لا تعليقات داخل الفيلم على ما يمكن أن تكون دوافع هذا السائق المغرم بجمع أكبر قدر من المومياوات الطازجة وأحلامها .. ولا تعليق على بواعث أو مقاصد البطل في دخوله مصارعة مع أحد العتاولة الذين كان يعلم يقينا أنه سيصرعه من أول ضربة حتى يهشم أضراسه !
وهذا من شأنه أن يبعثر الأحداث المسرودة ويفككها، ويبعث فينا الاستنكار للواقع الزماني والمكاني، مما يعمق غرائبية المسرود، ومفارقية المعرفة التي يقوم بكشفها وتشكيلها.
أحد السائقين، يحدث البطل عن الفيلم الأسطوري (فرنكشتاين) الذي أُطلق فيه سراح وحش عن طريق الخطأ؛ فعاث في الأرض والبشر فسادا... لا تبدو العلاقة بين (فرانكشتاين) وبطل الفيلم وثيقة إلا إذا نحن حملناها على أنه رمز لـ(الحب الضائع) الذي يمزق طيف الحبيبة بقِتلةٍ بشعة في كل مرة يزوره فيها :
مرة وهي تغني وتعزف بآلتها الموسيقية، بأن يسقط على رأسها تلفاز قديم ثقيل فيهشم رأسها حتى ينتثر دماغها، ومرة أمام المتجر بكلب عقور يثب عليها وينهش رقبتها، ومرة بأن تتمزق يداها وعنقها أما حلقة من الشبان في الشارع العام، والجمهور المرتعب في كل هذه المشاهد، يكتفي بالتحديق والاندهاش البارد، ولا شيء غير ذلك !
منذ مطلع الفيلم، وحتى نهايته، يحتفظ البطل لنفسه بقدر كبير من الإبهام والاحتمال، فهو حين يصل إلى مزرعة أخيه للعمل فيها؛ يتنصل سريعا من هذه المهمة، ويغادر منزل أخيه سرا بعد أن يترك له رسالة اعتذار، يطالبه فيها بأن لا يطلب منه العودة إلى العمل معه نهائيا، تتضمن الرسالة هذا دون أن تعرض لشيء من الحديث عن دوافعه لهذا الإجراء، أو عن وجهته القادمة .. ومن جديد يرجع البطل إلى متاهة (اللا-مكان)؛ ليستكمل اللقاء بطيف الحبيبة وموتها البشع من جديد !
وفي اللحظة التي يبدو فيها المكان والزمان منطقيين، فإن زيارات طيف الحبيبة وطرائق موتها البشعة والمقززة في كل مرة؛ تنسف هذه المنطقية، بحضورها وتلاشيها في أماكن وأزمنة مختلقة داخل المكان والزمان الراهنين، وكأن الفيلم يرسخ فكرة ضعف الجانب العقلي والمنطقي في حياة المرأة : سلوكا ومصيرا ، بداية ونهاية ... كما يرسخ فكرة تعلق المرأة بالرجل حتى بعد انقطاع أسباب هذا التعلق، وهذا يشبه في تراثنا العربي مقولة : "خُلِقَتِ المرأةُ من الرجل، فلذلك هَمُّها في الرجل".
ولا مراء في أن هذا الامتزاج بين الواقع والخيال؛ يجعل المتلقي/المشاهد منجذبا إلى الأحداث طيلة فترة الفيلم؛ لأنه يتوهم معقوليتها النفسية لا العقلية، وهي معقولية يتغاضى المتلقي/المشاهد –غالبا- عن عرضها على مِحَكِّ البرهنة والتمحيص؛ لئلا يُفسد على نفسه لحظات الاستمتاع والإثارة العاطفية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق