الاثنين، 4 يناير 2016

*النحو العربي ودعوى الاختراع*


تامر الأشعري
لكل أمة لغتها، ومن هذه الأمم نحن أمة العرب بطبيعة الحال، ورثنا لغتنا كابرا عن كابر، بوجوهها الاستعمالية المتنوعة والمتعددة، والمتخارجة والمتداخلة، وتلقفنا ثم أنتجنا بها نتاجنا الأدبي والفكري منذ الجاهلية، ونزل القرآن ليعزز هذه اللغة، وينتقل بها من المحلية إلى العالمية.
 قام علماء النحو منذ أبي الأسود الدؤلي وحتى عباس حسن بجهود جليلة ومشكورة، بتخليق المصطلحات، وتأطير القواعد التي وجدوا أن لغة العرب تجري وفقها أصلا..
غير أن اهتمامهم بفصاحة اللسان، والحذر من اللحن، والانشداد إلى النطق العربي المثالي للأصوات؛ انزلق بهم في وهدة الشكلانية، على حساب الدلالات والمعاني التي تحملها الحركات الإعرابية والتراكيب الجُملية، باستثناء جهود متناثرة صبت اهتمامها على "معاني النحو"، مثل الذي نراه -أحيانا- لدى سيبويه في كتابه، وبعض أصحاب الحواشي النحوية كالصبان، وبعض مفسري القرآن الكريم كالزمخشري، وبعض علماء البلاغة كعبد القاهر الجرجاني... هي التي جمع فاضل السامرائي جملة صالحة منها في كتاب أسماه "معاني النحو"، فجاءت عنده في مجلدين سمينين.
 وعلى الرغم من القصور الدلالي الذي اعترى عمل مقعّدي النحو العربي؛ فإن من المجازفة القول بأن النحاة هم الذين اخترعوا النحو العربي بحركاته وسكناته وصور تراكيبه، وأنهم ألزموا العرب والعجم بعد ذلك بالتلفظ على الأنحاء والهيئات التي أرادها أولئك النحاة واستساغوها !
وإذا سلّمنا جدلا بأن هذا يمكن أن ينطبق على الموالي وتلاميذ المؤدبين من ناشئة السلاطين والعامة؛ فإنه لا يمكننا أن نسلم أبدا بأن النحاة هم الذين ألزموا قراء القرآن بقراءته على الوجوه والحركات الإعرابية التي تكرَّموا باختراعها !
إن هذا الزعم يعني أن قراءة القرآن لم تكن سنة متبعة، وأنّ القرآن نزل بلا ضابط ولا نظام لا إعرابي ولا صوتي ... وأن لغة العرب كلها لغة فوضوية .. وهذا زعم سخيف .. يتنافى مع طبيعة اللغات جميعها، ومع طبيعة كل العقول البشرية التي تستعملها في تداولاتها التخاطبية.
إنه لا مناص لكل لغة من أن تنتظم وفق قواعد وأطر نطقية مطّردة في أغلبها، وهذا ما نراه في كل لغات العالم، حتى اللهجات المحلية منها، فإنها تجري وفق قوانين تركيبية وتعبيرية ونحوية لا يستطيع المتكلم تجاوزها، مع العلم بأن نحاة العالم؛ لم يتصدوا -بعدُ- لتقنين معظم تلك اللهجات بتراكيبها ومفرداتها وأصواتها .. حتى نقول : إن العامة التزموا بما أملى عليهم النحاة من ذلك !
وإذا كان معاشر قرّاء القرآن قد رضخوا لما أملى عليهم النحاة من وجوه القول –شأنهم في ذلك شأن بقية المتكلمين بالعربية- فإن هذا سيقودنا إلى القول : إن طرق قراءتهم وقراءة من بعدهم إلى يوم القيامة؛ ليست هي قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن جبريل نزل بقرآن لا إعراب له، فلذلك يحق لأي أحد أن يقرأ القرآن بأي الحركات الإعرابية شاء !
وفي رأيي ليس هذا القول إلا ضربا من العبث، أو شعبة من الجنون، فإنه إذا كان القرآن -على قداسته وعظمة منزلته في قلوب العرب- لم يتمكن من إرغام ألسنة الناس على وجه واحد وقراءة واحدة؟. فكيف استطاع النحاة أن يرغموا أمة محمد كلها وفي وقت قياسي يسير على الهيئات الاستعمالية الصارمة التي اخترعوها ؟!
وإن كان ذلك الزعم صحيحا؛ فلمَ لمْ يختلف النحاة على كل شيء فيه، باعتباره علما فوضويًّا ومخترعا على غير مثال سابق ؟ بل وكيف تمكن النحاة –مع ذلك- من الإجماع على أمهات أبواب النحو كالمرفوعات والمنصوبات والمجرورات ... على تباين عصورهم، واختلاف بلدانهم، وتنوع مشاربهم؟. مع أن المشهور من أمر العرب أنهم -إذا اخترعوا- اختلفوا .. حتى بشأن البصلة والسكين، وأيهما يجب إحضارهُ إلى الطبَقِ أوّلا ؟!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق