الاثنين، 4 يناير 2016

بلاغة التناص


*قراءة رمزية في نص "طوفان" لـــ . منير القباطي*
تامر الأشعري
النص :
((يا "نوح" ..
أقبل ماؤنا..
وتبعثرت منا المدينة !
وتشابهت أحوالنا؛
"طوفان"
أسلَمَنا سنينه !
فالريح
تعصف فوقنا؛
سُحُبًا بشدّتها دفينة ..
والبحرُ
يزحف قاتلا،
مدُنًا تغادرها السكينة !
والنازحون..
على الجبال تحولوا
مِزَقًا وطينة !
هلّا ..
بعثت لشعبنا
"كتلوج"
في صنع السفينة ؟!)).
1-      توطئة :
إن الشاعر يبني قصيدته هذه على حكاية/الطوفان= الدمار الشامل، الشائعة في ثقافات متفرقة من العالم، وبين شعوب لا يربط بينها مكان ولازمان.
وقد سُرِدتْ هذه الحكاية سردًا تفصيليا في كثير من الأساطير الشرقية والغربية لدى السومريين والبابليين والعبرانيين، والفينيقيين، واليونانيين ... وأكد كثيرا من تفاصيلها القرآن الكريم في سورة هود ونوح وغيرهما، وتتفق جميع نصوص حكاية الطوفان على أن الإعلام بالطوفان قد جاء من جهة إلهية.
2-      سبب الطوفان :
يصور الشاعرُ الطوفانَ هنا على أنه لا دخل لنوح فيه، بل هو عقوبة ارتجلها القدر لما رأى الناس/السياسيين؛ قد عاثوا في الأرض التي تحت أيديهم فسادا وسفكا للدماء، ولم يحققوا تماما الغاية التي من أجلها ساسوا، فلذلك قررت الأقدار إفناء الحياة السياسية، وتطهير الكراسي من نجس المتصارعين بطوفان شامل، عبّر الشاعر عن طغيانه وكثافته وهوله؛ بجملة من الأوصاف الممتدة عبر بنية القصيدة  :
(أقبل ماؤنا/طوفان أسلمنا سنينه/الريح تعصف/سُحُبا/البحر يزحف قاتلا/والنازحون على الجبال).
وبذلك يطرح الشاعر سببا سياسيا للطوفان، يتناص مع ملحمة "أتراحيس"، التي تذكر أن سبب الطوفان كان الصراع بين الآلهة في أسطورة التكوين، فـ(إنليل/المسؤول الرئيسي عن الطوفان في سفر التكون بالعهد القديم، شأنه في ذلك شأن شخصية أخرى اسمها يهوه)، شعر بالانزعاج الشديد من صخب البشر وضوضائهم/(شعاراتهم السياسية- المعادل الموضوعي للضجيج الإعلامي والمظاهرات وثورة 2011م)، فقرر إفناءهم بعد أن اعيته الحيل في التقليل من أعدادهم.
وإذن فالشاعر يرمز إلى قطبين سياسيين متصارعين فيما بينهما، متآزرين على تدمير من تحتهما، إنهما (إنليل) و(يهوه)، مما يقتضي إبعادهما جميعا عن الساحة السياسية؛ إن أراد الناس الأمان والسكينة والحياة، وهو ما يتناص مع قرار (عشتار) في النص السومري والأكادي إذ يقول :
"تقدموا جميعا.. وقربوا الذبائح؛ إلا إنليل وحده، لن يقترب؛ لأنه سبَّب الطوفان دونما رويّة، وأسلَم شعبي للدمار".
3-      بطل الطوفان :
(ريوسودرا) كان بطل الطوفان السومري، وذلك اعتمادا على ما أعطته إياه الآلهة من حياة طويلة بعد الطوفان، و(أوتنابشتيم) هو بطل الطوفان في القصة البابلية، ومعناه "الذي رأى الحياة"، وفي ملحمة إتراحيس؛ بطل الطوفان يعني "الواسع الحكمة"، أما في سفر التكوين؛ فلم يرد تلميح إلى أي علاقة بين اسم (نوح) وبين التجربة الدلالية لهذه التسمية، وكذلك الأمر في القرآن الكريم... غير أن دارسي الأساطير فسروا اسم (نوح) بمعنى "الراحة" .. ويخيل إليّ أن التسميات الأخرى لأبطال الطوفان في الأساطير القديمة، هي ترجمة على نحو ما لاسم (نوح) للدلالة على "العمر المديد"، و"سعة الحكمة"، و"قوة الصبر" على الدعوة وتبعاتها، وهو ما اتخذه الشاعر رمزا للخلاص من كارثة الطوفان، متناصا في ذلك مع العهد القديم، والقرآن الكريم.
4-      الكتلوج/الحلّ :
يريد الشاعر توفير العناء على بطلهِ (نوح)، ويطلب منه فقط أن يبعث إلى هذه الأمة البائسة (الكتلوج الإلهي الذي بموجبه صنع السفينة) :
هلّا..
بعثت لشعبنا ..
(كتلوج)
في صنع السفينة ؟!
وفي هذا الطلب دلالة على ثقة الشاعر بقيادات وطنية حكيمة يمكن أن تقود البلاد العربية إلى شاطئ الأمان، إن هي مُكِّنت من تسيير وإدارة مجالات التنمية المختلفة.
وقد أبدع الشاعر جدا في استدعاء مصطلح (كتلوج) للدلالة على الطريقة الإرشادية لاستعمال السفينة/المعادل الموضوعي للتسويات السياسية والاجتماعية الناجحة؛ لأن هذا المصطلح يحيلنا إلى الأغوار التناصية العميقة لحكاية السفينة وتباين النصوص الدينية والأسطورية في تفاصيل صنعها، ومواصفات ركابها، وذلك في ثلاثة نصوص  :
·        ((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27))) [المؤمنون].
·        ((وقال الرب لنوح ادخل السفينة أنت وجميع أهلك...)).[العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح السابع-1].
·        ((قوض بيتك ، وابن سفينة، واهجر ممتلكاتك، وانج بسفينتك، واترك متاعك، وأنقذ حياتك، واحمل فيها بذرة كل ذي حياة)). [أسطورة بابلية].
وللكتلوج بحسب نقوش (نيبور) التي هي أقدم رواية سامية عن حادثة الطوفان، عُثر عليها في خرائب مدينة نيبور، مكتوبة على لوح آجري تالف ومكسور يعود إلى الدولة البابلية القديمة، وفيها يقول الإله مخاطبا بطل الطوفان :
"قم ببناء سفينة،
سيكون هيكلها سفينة عظيمة،
وسيكون اسمها (حافظة الحياة)..
قم بتغطيتها بغطاء متين،
وإلى السفينة التي صَنَعتَ،
اجلب وحوش البر، وطيور السماء"..
إن الشاعر بحديثه عن (الكتلوج) الذي توضح النصوص الأسطورية والدينية تفاصيله؛ يميل  إلى أن العقوبة كما بدأت قدرية/ميتافيزيقية.. فإن الحل لا يمكن أن يكون إلا قدَريا/ميتافيزيقا، يحصل بموجبه إنقاذ مجموعة منتخبة من البشر، هو - بلا مراء - أحد أفرادها، من أجل الحفاظ على نواة عالم جديد، تحمل معها منجزات العمل الإنساني لتبدأ عهدا ثانيا أكثر اعتدالا وحيوية، على أرض تطهرت من فساد الأجيال السياسية السالفة، يقود ملحمة هذه النجاة نوح/قائد حكيم يختاره الإله لهذه المهمة التي لا يمكن أن ينهض بها غيره، قائد لا يحمل في هذه السفينة أهله والمقربين منه فحسب، بل "ومن كلٍّ زوجين اثنين"... أي إنه قائد يؤمن بمبدأ المساواة والتعايش مع الناس جميعا، على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وثقافاتهم وطبائعهم... يقلع بسفينة النجاة بعد اندياح الطوفان، وقد حمل فيها من المؤن ما يكفي، وعند انحسار المياه/العَذاب؛ يطلق العنان لحياة جديدة، في بلد جديد متجدد ..

إن شيوع قصص وأساطير الطوفان الشامل لها أصل صحيح فيما حدثنا عنه القرآن الكريم من أمر نوح وقومه، لكن انتشارها في سائر الثقافات الشعبية العالمية يثير مسائل شتى تتعلق بتفسير هذا النوع من الحكايات وبواعث نشأته ... وبغض النظر عن ذلك؛ فإن الشاعر قد أجاد أيما إجادة في توظيف هذه الحكاية رمزيا؛ للدلالة على المشهد التدميري الذي يعيشه المواطن العربي اليوم، بما يحمله هذا المشهد من تعقيدات وتداخلات وتخارجات، تجعل من المستحيل فكفكتها؛ إلا باللجوء إلى إله الطوفان وحده لا شريك له !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق