الجمعة، 1 يناير 2016

غواية (الشاعرية) !


نشر في الجمهورية يوم 19 - 07 - 2012

"الشاعرية" " والشعرية" و "ماوراء الشعرية"، مثلث أغوى الناس ناقداً ومنقوداً، أكثر مما أغواهم مثلث "برمودا"! 
كنا في أيام الصبا؛ نصبح وفي الأفق ظلَلٌ من الغمام، والضباب يدب من بين أيدينا ومن خلفنا ويجوس خلال الديار، فنسمع الناس يقولون: "هذا يومٌ شاعري"!
فما "الشاعرية"؟ وما الذي يجعل من قول ما "قولاً شعرياً"؟
يبدو لي أن أهم محددات "شاعرية" القول الشاعري؛ تكمن في منظومة من الخصائص المميزة له عن سائر الأجناس القولية الأخرى، غير مقتصرة على تشكيلات البناء اللغوي؛ بل متعدية إلى الضمني والخفي المتبرقع بهذا البناء.
لقد تذوقت السليقة العربية الشعر، فوجدته بوحاً وجدانياً، وتدفقا لسديم من العواطف والأخيلة والمعاني، وكمًّا نغميا ينساب وداعة وإيحاء وتأثيراً، حتى صار – عندهم – بسبب قوة تأثيره وفاعليته؛ أخا للسحر من الرضاعة، يحدوهم إلى ذلك اعتقادهم أن الشعراء تتنزل عليهم الشياطين، فتوحي إليهم زخرف القول قصيداً!
فالقول الشاعري – إذن - هو الذي يعمد إلى تكثيف اللغة، عبر تقنيات الموازنة الصوتية والإيقاعية، وتوظيف الصور الجمالية وتوليدها داخل سياق النص، إلى المدى الذي تنعتق فيه الكلمة لتصبح "إشارة"؛ تثير في ذهن المتلقي إشارات أخرى، وتجتلب إلى مخيلته صوراً ومشاهد لا حصر لها.
إن شاعرية أي قول؛ تعني قدراً من الخفاء المكتنف للمعاني، بحيث نستجلي منه في كل مرة نقرؤه معاني حادثة لم نكتشفها من قبل، ونظل ندور حوله بتساؤلات قلقة لا نملك أجوبة كافية لها، إلا أننا نُصِرُّ على هذا الدوران؛ استمتاعاً منا بذلك الغموض الذي يظل ينمو في النص؛ كلما نَمَتْ عواطفنا الداخلية تجاهه.
وللقول الشاعري نسقان؛ نسق "سمعي" هو الإيقاع الظاهري وزنا وتقفية وتوازنات تركيبية، ونسق "ذوقي" هو الفن الروحي، والتكاثف الدلالي، والعمق الإيحائي المصاحب للأصوات الشعرية، وبتآزر هذين النسقين تتحقق لذة التلقي الحسية والمعنوية ، ذلك أن "الشاعرية" - بما تتضمنه من وسائل فنية - توقظ حواس المتلقي، ثم تربط قواه الحساسة بالمدلولات والإحالات المرجعية، فيدرك حينئذ العالم الحسي بتشكلاته، ثم ينفذ منه إلى العالم التجريدي بمتاهاته الوجدانية وقواه الباطنية، فيغدو القول بذلك ضربا من التراسل والتجاوب، ولونا من "السحر" – كما أشار النبي عليه الصلاة والسلام – وقد صدق؛ فهل السحر إلا خفاء الوسيلة، وقوة التأثير، وفاعلية التخييل؟
ولنختتم الآن بما افتتحنا به: فما "الشاعرية" ؟ وما "الشعرية" ؟ وما "ماوراء الشعرية" ؟
إن "الشعريةpoetics " نظرية أدبية تأويلية، تدرس "الخصائص الشعرية" في فن معين، أي إنها تدرس "الشاعرية poeticity"، محاولةً الإجابة على سؤال مفاده: "ما الذي يجعل من أمر ما، أمراً شعرياً"؟
أما "ما وراء الشعرية"؛ فإنه الحقل الفرعي الذي يقوم بدراسة نظريات "الشعرية" وأسسها واتجاهاتها، بهدف مراجعتها ونقدها وتقييمها... ولكن .. لماذا تظل "ماوراء الشعرية" تتعقب "الشعرية" ؟ وتظل "الشعرية" تتعقب "الشاعرية"؟.. أرجو أن يكون الجواب: (كل بطَّاح من الناس له يوم بطوحُ)!
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق